ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَاماً عَلَى الَّذِيَ أَحْسَنَ وَتَفْصِيلاً لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَّعَلَّهُم بِلِقَاء رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ(154)

ونحن إذا سمعنا كلمة "ثم" نعلم أنها من حروف العطف ، وحروف العطف كثيرة ، وكل حرف له معنى يؤديه ، وهنا {ثم آتينا موسى الكتاب} ، وإيتاء موسى الكتاب كان قبل أن يأتى قوله :{قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم} فالتوارة جاءت ثم الإنجيل ، ثم جاء القرآن ككتاب خاتم . فكيف جاءت العبارة هنا بـ "ثم" ؟ . مع أن أتيان موسى الكتاب جاء قبل مجئ قوله الحق : { قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم} ؟

ونقول لأصحاب هذا الفهم أنت أخذت "ثم" لترتيب أفعال وأحداث ، ونسيت أن "ثم" قد تأتى لترتيب أخبار . وتتصاعد فيها ، وترتقى ، ولذلك قال الشاعر العربى :

إن من ساد ثم ساد أبوه ثم قد ساد قبل ذلك جدّه

فالسيادة جاءت أولاً للجد ، ثم جاءت للأب ، ثم انتقلت للابن . و"ثم" فى هذه الحالة ليست لترتيب الأحداث وإنما جاءت للترتيب الإخبارى أى يكون وقوع المعطوف بها بعد المعطوف عليه بحسب التحدث عنهما لا بحسب زمان وقوع الحدث على أحدهما فالمراد الترقى فى الإخبار بالأحداث .

وانظر إلى القرآن بكمال أدائه يقول :

{وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلآئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ}

(من الآية 11 سورة الأعراف )

ونعلم أن الأمر من الله للملائكة بالسجود لآدم كان من البداية . فسبحان هذا القول الكريم يريد أن يرتب حالنا ، إنه – سبحانه- خلقنا بعد أن صورنا ، وصورنا بعد ان قال للملائكة اسجدوا لآدم .

ولله المثل الأعلى ، تجد من يقول لأبنه : لقد اعتنيت بك فى التعليم العالى ، ثم لا تنس أنى قد اعتنيت بك فى التعليم الثانوى ، ثم لا تنس أننى قد اعتنيت بك فى التعليم الأعدادية ، ثم لا تنس أننى قداعتنيت بك من قبل كل ذلك فى التعليم الابتدائى . وأنت بذلك ترتقى أخبارياً لاأحداثياً . فقد يكون الحدث بعد ولكن ترتيب الخبرفيه يكون قبل .

{ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ...(154)} (سورة الأعراف)

طبعاً ما دام جاء بسيرة موسى فالكتاب هو التوراة وإذا أطلق الكتاب من غير تحديد فأنه ينصرف إلى القرآن لأنه هو الكتاب الجامع لكل ما فى الكتب والمهيمن على كل ما فى الكتب ، أما لو قيل مثلاً : أنزلنا على موسى الكتاب ، فيكون الكتاب هو التوراة ، أو أنزلنا على عيسى الكتاب ،فيكون الكتاب هو الإنجيل .

{ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَاماً عَلَى الَّذِيَ أَحْسَنَ وَتَفْصِيلاً لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَّعَلَّهُم بِلِقَاء رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ(154)} (سورة الأنعام)

 

والتمام هو استيعاب صفات الخير ، ولذلك يقول الحق :

{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي...(3)} (المائدة)

و"أكملت" فلا نقصان ، وأتممتها فلا استداك . ولماذا جاء بالتمام على الذى أحسن فى أمر موسى عليه السلام؟ . جاء ذلك لأن الذين تصدوا للحجاج والجدل معه عليه الصلاة والسلام هم اليهود .

وأنتم تعلمون أنهم صوروا فى مصرهنا فلماً سينمائياً أسمه "الوصايا العشر" عن قصة سيدنا موسى عليه السلام . والوصايا العشرهى التى أقر "كعب الأحبار" أنها موجودة فى التوراة وجاءت فى الآيات السابقة التى تناولناها وشرحناها ، فمن المناسب أن يأتى هنا ذكر موسى عليه السلام .

وحينما جاء موسى عليه السلام بالتوراة كما أنزلها الله عليه عاصره أناس آمنوا بما فى التوراة ، وكانوا من الناجين ، وقد ماتوا . أما الذين أستمرت حياتهم إلى أن جاء رسول الله ، فكان من المطلوب منهم أن يؤمنوا به ، لأن الحق أوضح لهم فى التوراة أن هناك رسولاً قادماً ، ولابد أن تؤمنوا حتى تتم نعمة الإحسان عليكم لأنكم و إن كنتم مؤمنين بموسى وعاملين بمنهجه فلابد من الإيمان بمحمد عليه الصلاة والسلام . والسابقون لكم أحسنوا فى زمن بعثة موسى عليه السلام ، وجاء محمد بالرسالة الخاتمة فإن أردتم أن يتم الله عليكم الحسن والكرامة والنعمة ، فلابد أن تعلنوا الإيمان بمحمد عليه الصلاة والسلام ، منكم من أحسن الإقتداء بموسى عليه السلام وآمنوا بمحمد فتم لهم الحسن:

{وَتَفْصِيلاً لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَّعَلَّهُم بِلِقَاء رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ}

"وتفصيلاً لكل شئ" أى أنه مناسب لزمنه ، ولله المثل الأعلى ، عندما يكون لك ولد صغير السن فتقول : أنا فصلت له ملابسه ، أى فصلت له الملابس التى تناسبه . وحين يكبر لن تظل ملابسه القديمة صالحة لأن يرتديها . "وتفصيلاً لكل شئ" أى القيم التى تناسب الوقت الذى يعيشونه ، فإذا ما جئنا بتفصيل جديد فى القرآن فهو مناسب لوقته ، ولقائل أن يقول : هنا تفصيل ، فما الفرق بين تفصيل وتفصيل؟ . نقول : إن كل تفصيل مناسب لزمنه ، وآيات القرآن مفصلة جاهزة ومعدة لكل زمن وللناس جميعاً إى أن تقوم الساعة .

والآفة – دائماً – فى القائمين على أمر التشريع ، فحينما تأتيهم حالة لذى جاه وسلطان يحاولون إعداد وتفصيل حكم يناسبه ، فنقول لمثل هذا الرجل : أنت تفصل الحكم برغم أن الأحكام جاهزة ومعدة وظاهرة ، إننا نجد القوالب البدنية تختلف فيها التفصيلات للملابس بينما القوالب المعنوية نجد فيها التساوى بين الناس كلها ، فالصدق عند الطفل مثل الصدق عند اليافع مثل الصدق عند الرجل مثل الصدق عند المرأة مثل الصدق عند العالم مثل الصدق عند التاجر ، وليس لكل منهم صدق خاص ، وكذلك الأمانة . ورحمنا الإسلام بالقضية العقدية وكذلك بالقضية الحكمية الجاهزة ، المناسبة لكل بشر ، وليست هناك آية على مقاس واحد تطبق عليه وحده ، لا ، فالآيات تسع الجميع .

{وَتَفْصِيلاً لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً ....(154)} (سورة الأنعام)

 

والهُدَى هو ما يدل على الغايات ، لأن دين الفطرة قد انطمس بعدم تبليغ الآباء إلى الأولاد منهج السماء فى أمور الحياة ومتعلقاتها والقيم التى يجب أن تسود . والآفة أن الأب يعلم ولده كيف يأكل ويشرب وينسى أن يعلمه أمور القيم ، لكن الحق سبحانه وتعالى رحم غفلتنا ورحم نسياننا ، فشرع وأرسل لكل زمان رسولاً جديداً ، وهديا جديداً ليذكرنا .

{...لَّعَلَّهُم بِلِقَاء رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ} (سورة الأنعام)

إن كل آفة تنبع من العزوف عن تشربعات الله ، وهم ينسون أن يضعوا فى أذهانهم لقاء الله ، لكن لو أن لقاء الله متضح فى أذهانهم لاستعدوا لذلك ، لأن الغايات هى التى تجعل الإنسان يقبل على الوسائل . والشاعر يقول

ألا من يرينى غايتى قبل مذهبى ومن أين والغايات هى بعد المذاهب

ونقول لهذا الشاعر : قولك : ألا من يرينى غايتى قبل مذهبى كلام صحيح ، أما قولك : ومن أين والغايات بعد المذاهب ، هذا كلام غير دقيق ، فالغاية هى التى تحدد المذهب ، وكذلك شرع الله الغاية أولاً بعد ذلك جعل لها السبيل

وقد شرع الله لكل شئ ما تقتضيه ظروف البشر الحياتية ، ولذلك لا استدراك عليه لأن فيه تفصيل لكل شئ .