وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ الأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ(165)

 

 

وهناك قول كريم فى آية أخرى :

{هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ} (من الآية 39 سورة فاطر)

وهنا يقول الحق : {خلائف الأرض} .

ومعنى "خليفة" أى الذى يخلف غيره ، فإما أن يخلفه زماناً ، وإما أن يخلفه مكاناً . وخلفة الزمان أن يأتى عصره بعد عصره ، ويومه بعد يومه ، وخلفة المكان أى أن يكون جالساً ثم يرحل ليأتى آخر ليستقر مكانه ، وانظر إلى كل قواعد الحياة بالنسبة للإنسان تجده فى شبابه قوياً ثم يرحل عنه الشباب ليأخذه آخره ، ويذهب إلى الشيخوخة . وكذلك نجد إنساناًيملك مكاناً ثم يتركه ويأتى واحد آخر يملكه .

أو أن الحق سبحانه وتعالى أراد من الخلافة لا خلافة بعضنا لبعض ولكن خلافة الإنسان لرب الإنسان فى الأرض ، لأن كل شئ منفعل لله قهراً ، والحق سبحانه وتعالى منح بسعة عطائه فجعل بعض الأشياء تنفعل لبعضها هبة منه سبحانه ، فإذا أوقدت النار –على سبيل المثال- تنفعل لك ، وإذا حرثت فى الأرض ووضعت فيها البذور تنفعل لك ، وإذا شربت ترتوى ، و
إذا أكلت تشبع . من أين أخذت كل ذلك؟ .

إنك قد أخذته من أن الحق الذى سخّر لك ما فى الكون ، وجعل أسباباً ومسببات ، فكأنك أنت خليفة إرادات ، لكى يثبت لنا سبحانه أنه يفعل ما يريد ، فعلينا أن نأخذ هذه القضية قضية مسلمة وإن أردت أن تختبر ذلك فانظر إلى أى إنسان ولو كان كافراً ويريد أن يقوم من مكانه ، وتنفعل له جوارحه فيقوم ، فأى جارحة أمرها لتفعل ذلك ؟ . إنه لا يعرف إلا أنه بمجرد أنه أراد أن يقوم قد قام . وحتى لا تفهم أنك أخذت كل ذلك بشطارتك فهو يجعل بعضاً من الأمور مشاعاً عالمياً ، مثل الموت والحياة أنهما أمران لا يختلف فيهما الإنجليزى عن الفرنسى عن العربى وكذلك الضحك والبكاء ، وهل هناك فرق بين ضحكة إنجليزية أو ضحكة شيوعية أو ضحكة رأسمالية ؟ . طبعاً لا ،فكلها ضحك وهو لغة عالمية ، ولذلك قال :

{وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى(43)} (سورة النجم)

وسبحانه جاء بأمر مشترك موجود فى الناس كلها ، فأنت تتكلم وتعمل على الصورة والكيفية التى تريدها ، لكنك ساعة تضحك فهو سبحانه الذى يضحك وأنت حين تود مجاملة أحد وتضحك له فتفاجأ بأن ضحكتك صناعية .

والحق يوضح لك : إن زمام كونى فى يدى ، أجعل القوم مختارين فى أشياء وأجعلهم مرغمين ومتحدين على رغم أنوفهم فى أشياء ، فأنا الذى أضحك وأبكى . ولا يوجد بكاء إنجليزى أو بكاء فرنساوى أو بكاء ألمانى ، وكل البشر شركاء فى مثل هذه الأمور .

{وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ الأَرْضِ ...(165)} (سورة الأنعام)

إن إرادتك على أبعاضك ، وعلى جوارحك – أيها الإنسان – موهوبة لك من الواهب الأعلى والمريد الأعلى ، وسبحانه يسلب ذلك من بعض الأفراد فيأمر المخ : إياك أن ترسل إشارة لتلك الجارحة لتنفعل فيصاب هذا الإنسان بالشلل .

ولو كان الأمر شطارة من الإنسان لقاوم ذلك .

أنتم – أذن – خلائف الأرض، تنفعل لكم الأشياء بقدر ما أراد الله أن تنفعل لكم ، فإذا سلب انفعلها عنكم فلكى يثبت أنكم لم تسخروها بقدراتكم ، بل به هو ، إن شاء أطلق الخلافة ، وإن شاء قيد الخلافة . {وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ}.

كأن من الخلافة أننا لا نكون متماثلين متطابقين ، بل أارد سبحانه أن نكون متكاملين فى المواهب ، وفى الكماليات ، لأن الناس لو كانوا صورة مكررة فى المواهب لفسدت الحياة فلابد أن تختلف مواهبنا ، لأن مطلوبات الحياة متعددة فلو أصبحنا كلنا أطباء فالأمر لا يصلح ، ولو كنا قضاة لفسد الأمر ، وكذلك لوكن مهندسين أو فلاحين . إذن فلابد من أن تتحقق إرادة الله فى قوله سبحانه:

{وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ..} (سورة الأنعام)

أى أن البعض قد رُفِعَ ، والبعض الآخر رُفِعَ عليه ، فمن هو البعض المرفوع ؟

ومن هو البعض المرفوع عليه ؟ .إنكل واحد فيكم مرفوع فى جهة مواهبه ، ومرفوع عليه فيما لا مواهب له فيه ، لأن الحق يريد أن يتكاتف المخلوقون ، ولا ينشأ التكاتف تفضلاً وإنما ينشأ لحاجة فلابد أن تكون إدارة المصالحفى الكون اضطراراً ، وهذه هى هندسة المكون الأعلى سبحانه التى تتجلى فى أنك وضعت خريطة لمن دخلوا معك فى مرحلة التعليم الابتدائى . ومن ترك منهم الدراسة ومن استمر ليدخل الدراسة الإعدادية . إنك تجدهم أقل ، ومن درس فى المرحلة الثانوية أقل ، ومن تعلم التعليم العالى أقل ومن نال الدكتواره أقل .

وهكذا نجد أن البعض يتساقط من التعليم لأن هناك أكثر من مهمة فى الكون لا تحتاج إلا إلى حامل الابتدائية فقط ، أو حامل الإعدادية ، أو إلى حامل شهادة إتمام الدراسة الثانوية ، ولو ظل كل واحد منهم فى التعليم العالى ، فلن نجد لتلك المهام أحداً . لذلك جعل الله التكاتف فى الكون احتياجاً لا تفضلاً.

والحظوا جيداً : أن الإنسان إذا عضّه جوع بطنه او جوع عياله فهو يقبل أى عمل ، وإن رضى بقدر الله فيما وضعه فيه ، ولم يحقد على سواه فسيتقن هذا العمل ، وسيتفوق فيه وسيرزقه الله الرزق الحلال الطيب . ولذلك قال الإمام على : قيمة كل امرئ ما يحسنه ، فإن أحسن الإنسان عمله ، فهو إنسان ناجح فى الوجود .

وهكذا أراد الحق سبحانه وتعالى ألا يجعلنا أشخاصاً مكررين ، ولكت جعلنا متفاضلين متفاوتين ، فرفع بعضاً على بعض ، وكل منا مرفوع فيما يجيد ، ومرفوع عليه فيما لا يجيد ، حتى يحتاج الإنسان منا إلى غيره ليؤدى له العمل الذى لا يجيده وبذلك يرتبط العالم ارتباط مصلحة وحاجة لا ارتباط تفضل .

{وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُم..ْ. (165)}

(سورة الأنعام)

كأن هذا الرفع هو اختبار للبشر فيما أعطاهم الله من المواهب .ليعلم علم الإلزام للعبد ، فسبحانه يعلم أزلاً كل ما يصدر عن العبد ، ولكنه يترك للعبد فرصة أن يؤدى العمل ليكون ملتزماً بما فعل . وتكون حجة على العبد . وحينما يقول الحق :

{لِيَبْلًُوَكُمْ} فالمقصود ليختبركم اختبار إقرار على نفوسكم ، لا إخباراً له .

{..لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ(165)}

(سورة الأنعام)

وسبحانه "سريع العفاب" ، وإياك أن تستبطئ الآخرة ، فالثواب والعقاب سيأتى بعد أن ننتهى ونموت ، وليس للموت سبب فكل إنسان عرضة لأن يموت وبذلك تكون قيامة قد قامت ، وإن قامت قيامة الإنسان فلن يقوم بأى عمل آخر .

إذن فسبحانه سريع العقاب . ولكن البعض من القوم يغريهم حلم الله ويستبطئون الآخرة .لذلك يقول أحد العارفين : اجعل شكرك لمن لا تنقطع نعمه عنك ، واجعل طاعتك لمن لا تستغنى عنه ، واجعل خضوعك لمن لا تخرج عن ملكه وسلطانه .

إذن فكل صفة من صفات الحق يتجلى ويظهر أثارها فى المخلوق هبة من الله له ،فأنت إذا أردت أن تقف ، مثلاً ، لا تعرف ما هى العضلات التى تحركها لتقف ، ولكنك بمجرد إرادتك أن تقف تقف ، وذلك مظهر لإرادة الله إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون .

وما دمنا خلائف فلابد أن نتكامل ولا نتكرر ، بمعنى أن كل واحد فيه موهبة تنقص من الآخر ، وفى الآخر موهبة تنقص فى غيره ، ليضطر كل مخلوق فى الأرض أن يتعاون مع آخر ليأخذ ثمرة مواهب غيره ، ويعطى هو ثمره مواهبه . ولا يريد الحق منا أن نعطى ثمرات المواهب تفضلاً ، وإنما يريد أن يجعلها حاجة . فأنت تحتاج إلى موهبة من لا موهبة لك فيه ، إنك تحتاج إلى الغير وهو كذلك إيضاً يحتاج إلى عملك .

وحين يستخلفنا الله تبارك وتعالى بهذه الصورة فبعضنا فى ظاهر الامر يكون أعلى من بعض ، لذلك يوضح سبحانه : أنا فضلت بعضكم على بعض ، لكنى لم أفضل طائفة لأجعل طائفة مفضولاً عليها ، ولكن كلّ مفضل فى شئ لأن له مواهب ، ويكون مفضلاً عليه فى شئ آخر لا مواهب له فيه ، وهكذا يتساوى الناس جميعاً .

إننا جميعاً عيال الله ، وليس أحد منا أولى بالله من أحد ، لأنه سبحانه لم يتخذ صاحبة ولا ولداً ، ولذلك إن حاولنا إحصاء المواهب فى البشر وتوزيعها على الخلق جميعاً لوجدنا أن مجموع كل إنسان يساوى مجموع كل إنسان آخر ، ولكن أنت تأخذ فى موهبة ما تفوقاً وفى الموهبة الأخرى لا تجد نفسك قادراً عليها , وفى موهبة ثالثة قد تقدر عليها لكنك لا تحبها ، واجمع الدرجات كلها فى جميع المواهب ستجد أن كل إنسان يساوى الآخر ، ولا فضل لأحد على أحد إلا بالتقوى.

{وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ الأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ..(165)} (سورة الأنعام)

إذن فكل واحد منا يقدر أن يقول : أنا مرفوع ، ولكن عليه ألا يغتر , لأنه مرفوع عليه أيضاً . والتوازن يأتى من هذه الناحية ، فلا غرور برفعتك فى درجة ولا مذلة بانخفاضك فى درجة ، لأن هذا مراد لله وذلك مراد له – سبحانه – والذى يحترم قدر الله فى توزيع مواهبه على الخلق يعطيه الله خير موهبته ، فلا يتميز ذو موهبة أخرى عليه أبداً .

ولكن أينجح الناس جميعاً فى هذا ؟ .لا ، فهناك أناس يتساقطون ، وهناك من يرى واحداً أغنى منه وهو فقير ، فيبدأ فى الغل والحقد والحسد ، ونقول له : انظر إلى قوتك فقد تكون أقوى منه ،وقد تكون أسعد منه فى أمور كثيرة . خذ الموهبة التى أعطاها الله لك والموهبة التى أعطاها لغيرك وستجد مجموع كل إنسان يساوى مجموع كل إنسان ، فالذى ينجح فى هذه المعادلات التفاضلية يكون له من الله ثواب . فيتجاوز له سبحانه عن بعض سيئاته ، ويغفر له .

والذى لا يحترم قدر الله فى خلق الله يعاقبه الله ، لذلك أوضح سبحانه : أنا أبلوكم وأختبركم ، فمن ينجح فله غفران ورحمة ، ومن لا ينجح فله عقاب ، ولا تظنوا أن عقابى بعيد لأن ما بين الإنسان والعقاب أن يموت ، وليس هناك سبب معروف للموت ، فمن الممكن أن يموت الإنسان لوقته ،فيبدأعقابه .

{..إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ(165)} (سورة الأنعام)

وبذلك ختمت سورة الأنعام التى استهلها الله بقوله سبحانه :{ الحمد لله } .

وختمها بقوله : { وإنه لغفور رحيم } .

فالحمد لله فى الأولى .

والحمد لله فى الآخرة .