قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ

 بَنِي إِسْرَائِيلَ (105)

 

فأى هذه الأمور هو الذى يحتاج الى بينه, هل البلاغ بأنه رسول من رب العالمين؟ إن هذا القول يدلنا على أن موسى أختلف مع فرعون أولاً فى أن موسى رسول, أن للعالمين رباً واحداً, وأنه لا يبلغ إلا بالحق, هذه- أذن – ثلاث قضايا خلافية بين موسى وفرعون. ولكن فرعون لم يختلف مع موسى إلا فى قضية واحدة وهى: هل هو رسول مبلغ عن الله بالقول الحق؟ فماذا طلب منه؟ طلب الدليل على أنه رسول من رب العالمين. وهذا يوضح أن فرعون يعلم أن العالم له رب أعلى.

كذلك فإن فرعون لم يقف مع موسى فى مسألة أن للعالمين رباً, وأن هذا الرب لا يستطيع كل إنسان أن يفهم مراده منه فلابد أن يرسل رسولاً, بل وقف فرعون فى مسأله: هل موسى رسول مبلغ عن الله أو لا؟

ولذلك يقول موسى:

 

 حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لَا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (105)

 

                                                                                                  سورة الأعراف

 

كأن مهمه موسى عند فرعون أن يخلص بنى إسرائيل. ونعرف أن قصه بنى إسرائيل ناشئه من أيام نبى الله يعقوب وأبنه يوسف, وتشاوروا فى أمر قتله أو طرحه أرضاً أو إلقائه فى غيابة الجب, لقد جائ الحق بقصه بنى إسرائيل على مراحل لنتدرج بالأنفعال معها.فمراحل النفعال النفسى أمام من تكره تأخذ صورتين اثنتين: صورة تدل على تصعيد الرحمة فى قلبك, وصورة تدل على تصعيد الشر فى قلبك, مثال ذلك: لنفترض أن لك خصماً وصنع فيك مكيدة, وتحكى أنت لإخوانك ما فعله هذا الخصم,وكيف أنك تريد الأنتقام منه فتقول: أريد أن انتقم منه بضربه صفعتين, ثم تصعد الشر فتقول: أنا اريد أن أقتله بالرصاص, هذا شأن الشرير, أما الخَيرفيقول: أنا لا أريد أن أقتله أو أن أصفعه أو أشتمه وأسبه فهذا تصعيد فى الخير. إذن يختلف تصعيد الأنتقام أو السماح حسب طاقه الخير أو الشر التى فى النفس. وهكذا نجد أخوة يوسف وهم يكيدون له فقالوا:

 

 (لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ)

من الآيه 8 سورة يوسف)

 

هم يعترفون أنهم قوة وعصبه, ويحسدون يوسف وأخاه على محلة الأب لهما, ويعترضون على ذلك, ويظهرون البينه على أن يوسف وأخاه أحب إلى الأب منهم, وذكر القرآن هذه البينه لنعرف اهميتها, حتى لا يغفل احد عنها. لقد كان قلب نبى الله يعقوب مع يوسف وأخيه لصغرهما وضعفهما, بينما بقية أبنائه كبار أقوياء أشداء, لأن الله سبحانه وتعالى وضع فى قلب الأبوة والأمومة من الرحمة على قدر ضعف الوليد الصغير. فالصغير هو من يحتاج إلى رعاية وعناية, ويكون قلب الأم والأب مع الأبن المريض أو الغائب. لذلك حينما سئلت امرأة حكيمه: من أحب بنيك إليك؟ قالت : الصغير حتى يكبر , والغائب حتى يعود؟ والمريض حتى يشفى.

إذن فقول إخوة يوسف (ونحن عصبة) هو بينه ضدهم. وكان المنطق يقتضى أن يعرفوا أنهم ما داموا عصبة فلابد أن يكون قلب أبيهم مع يوسف وأخيه فكلاهما كان صغيراً ويحتاج إلى رعاية, وبطبيعة تكوين أبناء يعقوب كأسباط وذرية أنبياء, نجدهم يصعدون الخير لا الشر, فقد بدأوا بإعلان رغبه القتل, ثم استبدلوا بها الطرح أرضاً بأن يلقوه فى أرض بعيدة نائيه ليستريحوا منه ويخلو لهم وجه أبيهم, ثم أستبدلوا بها إلقاءه فى غياهب الجُب, بدأوا بالقتل فى لحظة عنفوان الغضب ثم تنازلوا عن القتل بالطرح أرضاً, أى أن يتركوه فى مكان يكون فيه عرضه لأن يضل, ثم تنازلوا عن ذلك واكتفوا بإلقائه فى غيابة الجب يلتقطه بعض السيارة, فهل كانوا يريدون أن يضروه, أو كانوا يفكرون فى نجاته؟. إذن فهذا تصعيد للخير.

وتوالت الأحداث مع سيدنا يوسف واستقر معه بنو إسرائيل فى مصر وكثرت أعدادهم. وعندما نستقرئ التاريخ, نجد أن الحق سبحانه وتعالى حينما تكلم عن ملوك مصر, خص بعضهم بأسم فرعون, وخص بعضهم بأسم ملك, فهناك فرعون وهناك ملك.

فأذا ما نظرت إلى القديم نجد أن الحق يقول:

 

                                  وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ (10)    

 سورة الفجر

 

هكذا نجد الحق يسمى حاكم مصر((فرعون)) وفى أيام سيدنا موسى أيضاً يسميه الحق فرعون. لكن فى أيام يوسف عليه السلام لم يسمه فرعون, بل سماه ملكاً :

 

(وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ)    

 

    من الآية 50 سورة يوسف

 

وبعد أن اكتشف العالم الفرنسى شامبليون – حجر رشيد – عرفنا أن الفترة التى دخل فيها سيدنا يوسف مصر, لم يكن الفراعنة هم الذين يحكمون مصر, بل كان الحكام هم ملوك الهكسوس الرعاة, وطمر القرآن هذه الحقيقه التاريخيه حين سمى حكام مصر قبل يوسف فراعين, وفى الفترة التى جاء فيها سيدنا يوسف سماهم ((الملوك)), وهؤلاء هم من أغاروا على مصر وحكموها وساعدهم بنو إسرائيل وخدموهم, وقاموا على مصالحهم, وبعد أن طرد المصريون الهكسوس التفت الفراعنه بالشر إلى من أعان الهكسوس, فبدأوا فى استذلال بنى إسرائيل لمساعدتهم الهكسوس إبان حكمهم مصر. وأراد الله أن يخلصهم بواسطه موسى عليه السلام, ولذلك يقول الحق على لسان موسى:

 

وَقَالَ مُوسَى يَا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (104) حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لَا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (105)  

                             سورة الأعراف

 

كأن موسى يريد أن يخلص بنى إسرائيل, أما مسأله الألوهية وربوبية فرعون فقد جاءت عرضاً

ويقول فرعون:

قَالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآَيَةٍ فَأْتِ بِهَا إِنْ كُنْتَ

 مِنَ الصَّادِقِينَ (106)