قَالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ

 وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ (116)

 

هم – إذن – سحروا أعين الناس, والسحر – كما نعلم – لطف حيلة يأتى بأعجوبة تشبه المعجزة. وكأنها تخرق القانون, وهو غير الحيلة التى يقوم بها الحواة, لأن الحواة يقومون بخفه حركة, وخفه يد, ليعموا الأمر على الناس. لكن (( السحر )) شئ أخر, ونعلم أن الحق سبحانه وتعالى خلق كل جنس بقانون, خلق الإنس بقانون, وخلق الجن بقانون, وخلق الملائكة بقانونها:

 

(وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ)

من الآيه 31 سورة المدثر

 

وكل قانون له خصائصه ومميزاته التى تناسب عنصر  تكوينه, فالإنسان – مثلا – لأنه مخلوق من الطين له من الكثافة ما يمنعه من التسلل من خلال جدار, لأنك لو كنت تجلس وهناك تفاحة وراء الجدار الذى تجلس بجواره فلن يتعدى ريحها ولا طعمها إلى فمك, لأن الجداريحول بينك وبين ذلك, لكن لو كانت هناك جذوة من نار بجانب الجدار الذى تستند عليه لكان من الممكن أن يتعدى أثرها لك, لأن للنار إشاعات تنفذ من الأشياء, ولأن الجن مخلوق من نار, لذلك نجد له هذه الخاصية.

 

(إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ)

 من الآية 27 سورة الأعراف

 

فإذا كان الجن له قانون والإنس له قانون, فهل القانون هو الذى يسيطر؟ لا, بل رب القانون هو الذى يسيطر لأنه جل وعلا فوق القانون. فيأتى الله للإنس ويُعَلم واحداً منهم بعضاً من أسرار كونه ليستذل الجن لخدمته, برغم ما للجن من خفه حركه, فسبحانه يوضح: لا تظن أيها الجن أنك قد أخذت خصوصيتك من العنصر الذى يكونك لأن هناك القادر الأعلى وهو المعنصر لك ولغيرك, بدليل أن الإنسان وهو من عنصر آخر يتحكم فيك بعد أن علمه الله بعضاً من أسرار كونه. ولننتبه دائماً أن العلم بأسرار تسخير الجن هم من ابتلاءات الحق للخلق, لأنه سبحانه وتعالى يقول:

 

(وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ)

من الآية 102 سورة البقرة

 

فكأن هاروت وماروت وهما يعلمان الإنسان كيف يمارس السحر, ينصحان الإنسان الذى يرغب فى أن يتعلم السحر أولاً, ويوضحان له أنهما فتنه أى أبتلاء وأختبار ويقولان له : ( فلا تكفر), مما يدل على أن كل من يتعلم السحر, إن قال لك : إنى سأستعمله فى الخير فهو كاذب, لأنه يقول ذلك ساعه صفاء نفسه تجاه الخلق, لكن ماذا إن غافله إنسان من أى ناحية وغلبه على بعض أمره وهو يملك بعضاً من أسرار السحر؟ هل يقدر على نفسه؟ لقد قال إنه أمين وقت التحمل, لكن هل يظل أميناً وقت الأداء؟ إن من يتعلم السحر قد يستخدمه فى الأنتقام من غيره, وبذلك يضيع تكافؤ الفرص, هو الذى يحمى الناس, ويعطى بعضهم المن من بعض, ويُلزم كل إنسان حدّة. فإذا أخذ إنسان سلاحاً ليس عند غيره فقد يستخدمه ضد من لا يملك مثله, والإنسى الذى يأخذ سلاح أستخدام الجن إنما يأخذ سلاحاً لا يملكه أخوه الإنسى, وبذلك يكون قد أخذ فرصة أقوى من غيره وفى هذا ابتلاء, لأن الإنسان قد ينجح فيه وقد يخفق فلا يظفر بما يطلبه, وقوله سبحانه: ( فلا تكفر) يدل على أنهما علما طبائع البشر فى أنهم حين يأخذون فرصة أعلى قد يُضْمَنون يوم تعكير نفوسهم.

 

(فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ)

                                                                                              من الآيه 102 سورة البقرة

 

ما دام الحق هو الذى أعطاهم هذه القدرة فهو سبحانه القادر على ان يسلبها منهم, مثلما يمنح الله سبحانه وتعالى القدرة لإنسان ليكون غنياً وقادراً على شراء سلاح نارى, وأن يتدرب على أطلاق النار, فهذا الرجل ساعة يغضب قد يتصور أن يحل خلافه مع غيره أو ينهى غضبه مع أى أنسان آخر بإطلاق الرصاص عليه. لكن لو لم يكن معه(( مسدس )) فقد ينتهى غضبه بكلمه طيبه يسمعها, إذن فساعه ما يمنع الله أمراً فهو يريد أن يرحم, لذلك يقول:( وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنه فلا تكفر).

وفى هذا تحذير لمن يتعلم مثل هذا الأمر, ويريد سبحانه أن يحمى خلقه من هذه المسألة, ويكفى أن نعلم أنه سبحانه قد قال  : ( وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله)

فلو أنك تتبعت هؤلاء لاستذلوك, واستنزفوك, ويتركك الله لهم لأنك اعتقدت فيهم, أما إن قلت: (( اللهم إنك قد أقدرت بعض خلقك على السحر والشر, ولكنك احتفظت لنفسك بإذن الضر, فإنى أعوذ بما احتفظت به مما أقدرت عليه, بحق قولك : ( وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله). هنا لن يمكنهم الله منك, إنما إن استجبت وسرت معهم, فهم يستنزفونك, وأراد الله أن يفضح مثل هذه العملية فقال على السنه السحرة الذين استدعاهم فرعون:

 

( أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا)            من الآية 41 سورة الشعراء

 

وكأنهم يعترفون بالنقص فيهم, فعلى الرغم من أدعائهم القدرة على فعل المعجزات إلا أنهم عاجزون عن الكسب الذى يوفى حاجاتهم, لذلك طلبوا الأجر من فرعون, وهذا حال الذين يشتغلون بالسحر والشعوذة. هم يدعون القدرة ويعانون الفاقة والعوز. هكذا حكم الحق بضيق رزق من يعمل بالسحر, ويفضحهم الحق دائماً وللعاقل أن يقول: ما داموا يَدعُون الفلاح فليحلفوا فى إصلاح أحوالهم. وما دام الساحر يدعى أنه يعرف أماكن الكنوز المخبوءة فلماذا لا يعرف كنوزاً فى الأرض التى ليست مملوكة لأحد ويأخذها لنفسه؟ هذا إن افترضنا أن الساحر أمين للغاية ولا يريد أن يأخذ من خزائن الناس.

ولذلك تجد كل العاملين بالسحر والشعوذة يموتون فقراء, بشعى الهيئه, مصابين فى الذرية, لأن الكائن منهم استغل فرصة لا توجد لكل واحدِ من جنسه البشرى, وذلك للإضرار بالناس. واقرأ قول الحق سبحانه وتعالى:

 

  (وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا (6)     

   سورة الجن

 

وهنا يقرر الحق أنهم سيعيشون فى إرهاق وتعب. ولذلك يتحدد موقفنا من السحر بأننا لا ننكره آخرون. فقد قال بعض من العلماء : إن السحرة جاءوا بعصى وضعوا فيها زئبقاً , وعند وجود الزئبق تحت أشعة الشمس تعطى له حرارة فتتلوى العصى, لكن نحن لا ننكر السحر, كما لا ننكر الجن لأنه لا يفوتنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:

 

(( إن عفريتا من الجن تفّلت علىّ البارحة ليقطع علىّ الصلاة فأمكننى الله تبارك وتعالى منه وأردت أن أربطه إلى سارية من سوارى المسجد حتى  تصبحوا وتنظروا إليه كلكم فذكرت قول أخى سليمان علية الصلاة والسلام : ( رب أغفر لى وهب لى مُلكاً لا ينبغى لأحد من بعدى) ))

 رواه البخارى ومسلم والنسائى

 

فما دام الحق قد قال : إنه خلق خلقاً لا تدركهم بإحساسك, فنحن نقر بما أبلغنا به الحق, لأن وجود الشئ أمر وإدراك وجوده أمر آخر, وكل مخلوق له قانونه, فالعفريت من الجن قال لسيدنا سليمان عن عرش بلقيس:

 

(أَنَا آَتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ)

من الآيه 39 سورة النمل

 

وكأن الجن يطلب زمناً ما , فقد يجلس سليمان فى مقامه معهم ساعة أو ساعتين أو ثلاثا, لكن الذى عنده علم من الكتاب يقول :

 

 (أَنَا آَتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ)

 من الآيه 40 سورة النمل

 

ولابد أن يكون طرفه قد أرتد فى أقل من ثانية بعد أن قال ذلك, ولهذا نجد القرآن يورد ما حدث على الفور فيقول : (فلما رآه مستقراً عنده).

مما يدل على أن الله قد خلق الأجناس, وخلق لكل جنس قانوناً, وقد يكون هناك قانون أقوى من قانون آخر, لكن صاحب القانون مخلوق لذلك لا يحتفظ به, لأن خالق القانون يبطله, ويسلط أدنى على من هو أعلى منه. ولندقق فى التعبير القرآنى : ( سحروا أعين الناس).

ونحن أمام أشياء هى العصى والحبال. وجمع من البشر ينظر. ونفهم من قوله الحق :( سحروا أعين الناس) أن السحر يَنْصَبُ على الرائى له, لكن المرئى يظل على حالته, فالعصى هى هى , والحبال هى هى, والذى يتغير هو رؤية الرائى. ولذلك قال سبحانه فى آية ثانية :

 

(يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى)

من الآيه 66 سورة طه

 

 إذن فالسحر لا يقلب الحقيقة , بل تظل الحقيقة هى هى ويراها الساحر على طبيعتها. لكن الناس هى التى ترى الحقيقة مختلفة. إذن فالسحرة قد قاموا بعملهم وهو : ( سحروا أعين الناس واسترهبوهم ).

وأسترهبوهم أى أدخلوا الرهبة فى نفوس الناس من هذه العملية, وظن السحرة أن موسى سيخاف مثل بقية الناس المسحورين, ونسوا أن موسى لن ينخدع بسحرهم, لأنه باصطفاء الله له وتأييده بالمعجزة صار منفذاً لقانون الذى أرسله فجعل عصاه حية, وصاحب القانون هو الذى يتحكم. وهم قد جاءوا بسحر عظيم, وهو أمر منطقى, لأن العملية هى مباراة كبرى يترتب عليها هدم ألوهية فرعون أو بقاء ألوهيته, لذلك لابد أن يأتوا بآخر وأعظم ما عندهم من السحر.

ويقول الحق:

وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ

 تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ (117)