أُوْلَـئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ(5)

سورة البقرة

قوله تعالى : (اولئك) اشارة الى الذين تنطبق عليهم كل الصفات التى يبينها الله سبحانه وتعالى فى الآيتين السابقتين..فأولئك الذين تنطبق عليهم هذه الصفات وصلوا الى الهدى اى الى الطريق الموصل للإيمان .. ووصلوا الى الفلاح ، وهو الهدف من الإيمان..

وقوله تعالى :" أُوْلَـئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ"تشمل الجميع

ولكن لماذا استخدم الله تبارك وتعالى " أولئك " مرتين ؟ تلك من بلاغة القرآن الكريم، ولماذا دمج الخبرين بعضهما مع بعض؟حتى نعرف انه ليس فى الإسلام إيمانان بل غيمان واحد يترتب عليه جزاء واحد..وسيلته الهدى ، وغايته الفلاح..

ولو نظر الى التكليفات التى هى الهدى الموصلة الى الغاية نجد ان الله سبحانه وتعالى رفع المهتدى على الهدى..لتعرف ان الهدى لم ياتى ليقيد حركتك فى الحياة ويستذلك وانما جاء ليرفعك..

ان السطحيين يعتقدون ان الهدى يقيد حركة افنسان فى الحياة ويمنعه من تحقيق شهواته العاجلة .. ولكن الهدى فى الحقيقة يرفع الإنسان ويحفظه من الضرر ، ومن غضب الله ، ومن افساد المجتمع الذى سيكون هو اول من يعانى منه .. لذلك قال تبارك وتعالى " على هدى"

و(على ) تفيد الإستعلاء. فاذا قلت انت على الجواد فانك تعلوه..كأن المهتدى حين يلزم نفسه بالمنهج لا يذل .. ولكنه يرتفع الى الهدى ويصبح الهدى ياخذه من خيرا الى خير..وذلك بعكس الضلالة التى تاخذ الإنسان الى اسفل..

ولذلك حين تقرأ فى القرىن الكريم قوله تعالى:

وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ

من الآية 24 سورة سبأ

ترى ما يفيد الإرتفاع والعلو فى الهداية ، وما يفيد افنخفاض والنزول فى الضلالة ، وانما كان العلو فى الهدى ..لأن المنهج قيد حركة حياتك اعزازا لك لعلوك وسمو مقامك فى انك لا تأخذ من بشر تشريعا .. ولا تاخذ من ذاتك حركة .. وانما يرتفع بك لتتلقى عن الله سبحانه وتعالى.. وهذا علو كبير .. ولكن عند الضلال قال " فى ضلال".. و(فى ) تدل على الظرفية المحيطة.. وهو كما وصفه الله سبحانه وتعالى فى آية اخرى بقوله جل جلاله:

بَلَى مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيـئَتُهُ فَأُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ(81)

سورة البقرة

أحاطت به الخطيئة.. اى لا يستطيع ان يفلت منها لأنه مظروف فى الضلال .. وما دامت الخطيئة محيطة به فلا يجد منفذا لأنها تحكمه .. وما دامت تحكمه فلا يمكن ان يصل الى هدى مطلقا .. فالحق سبحانه وتعالى حينما قال:"اُوْلَـئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ" ..اختار لفظا عليه دلالة دنيوية تقرب المعنى الى السامع

 

ما هو الفلاح؟..المعنى العام هو الفوز والمفلح هو الفائز. ومعنى الآية الكريمة أولئك هم الفائزون وقال " هم المفلحون" ..لأن الفلاح مأخوذ من شق الأرض للبذر ..ومنه سُمى الفلاح الذى صفته شق الأرض ورمى البذور فيها..

 

والحق سبحانه وتعالى جاء بهذا اللفظ بالنسبة للأخرة لأنه يريد ان ياتى لنا مع الشيىء بدليله..وهناك فرق بين امر غيبى عنا لا نعرفه .. وامر غيبى يستدل عليه بمشهود.

فالدين يقيد حركتك فى الحياة فى ان تفعل ولا تفعل .. ومنهج الله جاء ليقول لك افعل كذا ولا تفعل كذا . وكثير من الناس يظن ان ذلك تقييد لحركة حياة المؤمن واثقال عليه..لأنه اخذ منه حرية حركته فقيدها..

ان الله تبارك وتعالى حين يقول لك لا تفعل .. معناها عند السطحيين انه ضيق عليك ما تريد ان تفعل .. وحين يقول لك افعل .. معناها يكون قد ضيق عليك فى شىء لا تريد ان تفعله .فمثلا : حين يطلب منك الزكاة ..فالزكاة فى ظاهرها نقص المال، وان كانت فى حقيقتها بركة ونماء.. ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :(ما نقصت صدقة من مال ، وما زاد الله عبدا بعفو الا عزا ، وما تواضع احد لله الا رفعه)رواه احمد ومسلم والترمذى عن ابى هريرة

فالحق سبحانه وتعالى اذا قيد حركتك فى الحياة .. لا تظن ان هذا تضييق عليك .. بل ان هذا لفائدتك .. لأنه لم يأمرك وحدك ، ولكن الأمر للناس جميعا حين يقول جل جلاله لا تسرق .. فقد قالها للناس جميعا ولذلك تكون انت الرابح .. لأنه قيدك وانت فرد من ان تسرق غيرك.. ولكنه قيد ملايين الناس من ان يسرقوا منك .. اذن فالله لم يضيق عليك ولكنه حمى مالك من الناس كل الناس .. قيدك وانت فرد ان تسرق من مال غيرك ، وقيد ملايين أن يسرقوا من مالك .. فمن الفائز؟.. أنت طبعا..

وقوله تعالى  أولئك هم المفلحون"(المفلحون)من مادة فلح..فاذا كانت الرض صماء فحينما نشقها ونبذرها تعطى محصولا عظيما ، العملية اخذناها ابا عن جد .فالأرض حين تشق وتبذر تعطى محصولا وافرا.. واذا كانت هذه العملية اخذت ابا عن جد..يأتى السؤال من الذى علم آدم البذر والزرع؟..نقول علمه الله سبحانه وتعالى كما علمه الأسماء.. وكما علمه ما يمكنه به ان يباشر مهمته فى الأرض..

 

والحق جل جلاله لم يكن يترك آدم في حياته على الأرض دون يعلمه ما يضمن استمرار حياته وحياة أولاده .. يعلمه على الأقل بدايات .. ثم بعد ذلك تتطور هذه البدايات بما يكشفه الله من علمه لخلقه .. وبعد ذلك جاءت القرون المتقدمة فاستطعنا أن نستخدم آلات حديثة متطورة تقوم بعملية الحرث والبذر..
ولكن الحقيقة الثابتة التي لم تتغير منذ بداية الكون ولن تتغير حتى نهايته .. هي أن مهمة الإنسان أن يحرث ويضع البذرة في الأرض ويسقيها .. أما نمو الزرع نفسه فلا دخل للإنسان فيه .. وكذلك الثمر الذي ينتجه لا عمل للإنسان فيه .. ولقد نبهنا الله تبارك وتعالى إلي هذه الحقيقة حتى لا نغتر بحركتنا في الحياة ونقول إننا نحن الذين نزرع .. واقرأ قول الحق جل جلاله في سورة الواقعة:

أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ(63) أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ(64) لَوْ نَشَاء لَجَعَلْنَاهُ حُطَاماً فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ(65) إِنَّا لَمُغْرَمُونَ(66) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ(67)

(سورة الواقعة)


وهكذا ظلت مهمة الفلاحة في الأرض مقتصرة على الحرث والسقي والبذر، وحينما تلقى الحبة في الأرض يخلق الله في داخلها الغذاء الذي يكفيها حتى تستطيع أن تأخذ غذاءها من الأرض .. وإذا جئت بحبة وبللتها تجد أنها قد نبت لها ساق وجذور .. من أين جاء هذا النمو؟. من نفس تكوين الحبة. والله تبارك وتعالى قد قدر في كل حبة من الغذاء المطلوبة يكون حجم الحبة .. وحين تضعها في الأرض فإنها تبدأ أولا بأن تغذي نفسها .. بحيث ينبت لها ساق وجذور وورقتان تتنفس منهما .. كل هذا لا دخل لك فيه ولا عمل لك فيه .. وتبدأ الحبة تأخذ غذاءها من الأرض والهواء .. لتنمو حتى تصبح شجرة كبيرة تنتج الثمر من نفس نوع البذرة.
ومن هنا جاءت كلمة (المفلحون) .. ليعطينا الحق جل جلاله من الأمور المادية المشهودة ما يعين عقولنا المحدودة على فهم الغيب .. فيشبه التكليف وجزاءه في الآخرة بالبذور والفلاحة .. أولا لأنك حين ترمي بذرة في الأرض تعطيك بذورا كثيرة..
واقرأ قول الله سبحانه وتعالى:

مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ وَاللّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ(261)

(سورة البقرة)


وإذا كانت الأرض وهي المخلوقة من الله تهبك أضعاف أضعاف ما أعطيتها .. فكيف بالخالق؟ .. وكم يضاعف لك من الثواب في الطاعة؟ .. هذا هو السبب في أن الحق تبارك وتعالى يقول: "وأولئك هم المفلحون" .. حتى يلفتنا بمادة الفلاحة .. وهي شيء موجود نراه ونشهده كل يوم.
وكما أن التكليف يأخذ منك أشياء ليضاعفها لك .. كذلك الأرض أخذت منك حبة ولم تعطك مثل ما أخذت، بل أعطتك بالحبة سبعمائة حبة .. وهكذا نستطيع أن نصل بشيء مشهود يفصل لنا شيئا غيبيا