إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ(62)

سورة البقرة

 

بعد أن تحدث الحق سبحانه وتعالى عن بني إسرائيل وكيف كفروا بنعمه .. أراد أن يعرض لنا حساب الأمم التي سبقت أمم رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم القيامة، ولقد وردت هذه الآية في سورة المائدة ولكن بخلاف يسير من التقديم والتأخير .. ففي سورة المائدة:



إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالصَّابِؤُونَ وَالنَّصَارَى


(من الآية 69 سورة المائدة)



أي أنه في سورة المائدة تقدمت الصابئون على النصارى .. واختلف الإعراب فبينما في البقرة و"الصابئين" .. وفي المائدة و"الصابئون" .. وردت آية أخرى في سورة الحج:

إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ(17)


(سورة الحج)



الآيات الثلاث تبدو متشابهة .. إلا أن هناك خلافات كثيرة .. ما هو سبب التكرار الموجود في الآيات .. وتقديم الصابئين مرة وتأخيرها .. ومع تقديمها رفعت وتغير الإعراب .. وفي الآيتين الأوليين (البقرة والمائدة) تأتي: "من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون" .. أما في الآية التي في سورة الحج فقد زاد فيها: "المجوس والذين أشركوا" .. واختلف فيها الخبر .. فقال الله سبحانه وتعالى: "إن الله يفصل بينهم يوم القيامة". عندما خلق الله وأنزله ليعمر الأرض أنزل معه الهدى .. واقرأ قوله تعالى:

فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى


(من الآية 123 سورة طه)



مفروض أن آدم أبلغ المنهج لأولاده .. وهؤلاء أبلغوه لأولادهم وهكذا وتشغل الناس الحياة وتطرأ عليهم الغفلة .. ويصيبهم طمع الدنيا وجشعها ويتبعون شهواتهم .. فكان لابد من رحمة الله لخلقه أن يأتي الرسل ليذكروا وينذروا ويبشروا .. الآية الكريمة تقول: "إن الذين آمنوا" .. أي إيمان الفطرة الذي نزل مع آدم إلي الأرض .. وبعد ذلك جاءت أديان كفر الناس بها فأبيدوا من على الأرض .. كقوم نوح ولوط وفرعون وغيرهم .. وجاءت أديان لها اتباع حتى الآن كاليهودية والنصرانية والصابئية، والله سبحانه وتعالى يريد أن يجمع كل ما سبق في رسالة محمد عليه الصلاة والسلام .. ورسول الله صلى الله عليه وسلم جاء لتصفية الوضع الإيماني في الأرض..
إذن الذين آمنوا أولا مع آدم أو مع الرسل .. الذين جاءوا بعده لمعالجة الداءات التي وقعت .. ثم الذين تسموا باليهود والذين تسموا بالنصارى والذين تسموا بالصابئة .. فالله تبارك وتعالى يريد أن يبلغهم لقد انتهى كل هذا .. فمن آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون .. فكأن رسالته عليه الصلاة والسلام جاءت لتصفية كل الأديان السابقة .. وكل إنسان في الكون مطالب بأن يؤمن بمحمد عليه الصلاة والسلام .. فقد دعي الناس كلهم إلي الإيمان برسالته .. ولو بقى إنسان من عهد آدم أو من عهد إدريس أو من عهد نوح أو إبراهيم أو هود .. أولئك الذين نسبوا إلي اليهودية وإلى النصرانية وإلى الصابئية .. كل هؤلاء مطالبون بالإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم والتصديق بدين الإسلام .. فالإسلام يسمح العائد السابقة في الأرض .. ويجعلها مركزة في دين واحد .. الذين آمنوا بهذا الدين: "ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون" .. والذين لم يؤمنوا لهم خوف وعليهم حزن .. وهذا إعلان بوحدة دين جديد .. ينتظم فيه كل من في الأرض إلي أن تقوم الساعة .. أما أولئك الذين ظلوا على ما هم عليه .. ولم يؤمنوا بالدين الجديد .. لا يفصل الله بينهم إلا يوم القيامة .. ولذلك فإن الآية التي تضمنت الحساب والفصل يوم القيامة .. جاء فيها كل من لم يؤمن بدين محمد عليه الصلاة والسلام .. بما فيهم المجوس والذين أشركوا.
والحق تبارك وتعالى أراد أن يرفع الظن .. عمن تبع دينا سبق الإسلام وبقي عليه بعد السلام .. وهو يظن أن هذا الدين نافعه .. نقول له أن الحق سبحانه وتعالى قد حسم هذه القضية في قوله تعالى:

وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ(85)


(من الآية 85 سورة آل عمران)



وقوله جل جلاله:

إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ


(من الآية 19 سورة آل عمران)


إذن التصفية النهائية لموكب الإيمان والرسالات في الوجود حسمت .. فالذي آمن بمحمد عليه الصلاة والسلام .. لا يخاف ولا يحزن يوم القيامة .. والذي لم يؤمن يقول الله تبارك وتعالى له "إن الله يفصل بينهم يوم القيامة" .. إذن الذين آمنوا هم الذين ورثوا الإيمان من عهد آدم .. والذين هادوا هم أتباع موسى عليه السلام .. وجاء الاسم من قولهم: "إنا هدنا إليك" ـ أي عدنا إليك .. والنصارى جمع نصراني وهم منسوبون إلي الناصرة البلدة التي ولد فيها عيسى عليه السلام .. أو من قول الحواريين نحن أنصار الله في قوله تعالى:

فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللّهِ آمَنَّا بِاللّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ(52)

سورة آل عمران


أما الصابئة فقد اختلف العلماء فيهم .. قال بعضهم هم أتباع نوح ولكنهم غيروا بعده وعبدوا من دون الله الوسائط في الكون كالشمس والقمر والكواكب .. أو الصابئة هم الذين انتقلوا من الدين الذي كان يعاصرهم إلي الدين الجديد .. أو هم جماعة من العقلاء قالوا ما عليه قومنا لا يقنع العقل .. كيف نعبد هذه الأصنام ونحن نصنعها ونصلحها؟ .. فامتنعوا عن عبادة أصنام العرب .. فقالوا عنهم إنهم صبئوا عن دين آبائهم .. أي تركوه وآمنوا بالدين الجديد .. وأيا كان المراد بالصابئين فهم كل من مال عن دينه إلي دين آخر.
أننا نلاحظ أن الله سبحانه وتعالى .. جاء بالصابئين في سورة البقرة متأخرة ومنصوبة .. وفي سورة المائدة متقدمة ومرفوعة .. نقول هذا الكلام يدخل في قواعد النحو .. الآية تقول: "إن الذين آمنوا" .. نحن نعرف أن (إن) تنصب الاسم وترفع الخبر .. فالذين مبني لأنه اسم موصول في محل منصوباً أيضاً .. والنصارى معطوف أيضا على اسم إن .. والصابئين معطوف أيضا ومنصوب بالياء لأنه جمع مذكر سالم .. نأتي إلي قوله تعالى: "من آمن بالله واليوم الآخر". هذه مستقيمة في سورة البقرة إعرابا وترتيبا .. والصابئين تأخرت عن النصارى لأنهم فرقة قليلة لا تمثل جمهرة كثيرة كالنصارى .. ولكن في آية المائدة تقدمت الصابئون وبالرفع في قوله تعالى: "إن الذين آمنوا والذين هادوا" .. الذين آمنوا اسم إن والذين هادوا معطوف .. و"الصابئون" كان القياس إعرابيا أن يقال والصابئين .. وبعدها النصارى معطوفة .. ولكن كلمة (الصابئون) توسطت بين اليهود وبين النصارى .. وكسر إعرابها بشكل لا يقتضيه الظاهر .. وللعرب إذن مرهفة لغويا .. فمتى سمع الصابئين التي جاءت معطوفة على اسم إن تأتي بالرفع يلتفت لفتة قسرية ليعرف السبب ..
حين تولى أبا جعفر المنصور الخلافة .. وقف على المنبر ولحن لحنة أي أخطأ في نطق كلمة .. وكان هناك إعرابي يجلس فآذت أذنيه .. وأخطأ المنصور للمرة الثانية فحرك الإعرابي أذنيه باستغراب .. وعندما أخطأ للمرة الثالثة قام الإعرابي وقال .. أشهد أنك وليت هذا الأمر بقضاء وقدر .. أي أنك لا تستحق هذا .. هذا هو إذا سمعه العربي هز أذنيه .. فإذا جاء لفظ مرفوعا والمفروض أن يكون منصوبا .. فإن ذلك يجعله يتنبه أن الله له حكمة وعلة .. فما هي العلة؟ .. الذين آمنوا أمرهم مفهوم والذين هادوا أمرهم مفهوم والنصارى أمرهم مفهوم .. أما الصابئون فهؤلاء لم يكونوا تابعين لدين .. ولكنهم سلكوا طريقا مخالفا .. فجاءت هذه الآية لتلفتنا أن هذه التصفية تشمل الصابئين أيضا فقدمتها ورفعتها لتلفت إليها الآذان بقوة .. فالله سبحانه وتعالى يعطف الإيمان على العمل لذلك يقول دائما: "آمن وعمل صالحا" .. لأن الإيمان إن لم يقترن بعمل فلا فائدة منه .. والله يريد الإيمان أن يسيطر على حركة الحياة بالعمل الصالح .. فيأمر كل مؤمن بصالح العمل وهؤلاء لا خوف عليهم في الدنيا ولا هم يحزنون في الآخرة