فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُواْ اللّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ(200)

سورة البقرة

ونعرف أن "قضى" تأتي بمعان متعددة، والعمدة في هذه المعاني فصل الأمر بالحكمة، قد يفصل الأمر بحكمة لأنه فرغ منه أداء "فإذا قضيتم" أي إذا فرغتم من مناسككم، هذه واحدة. وقد يكون لأنك فصلت الأمر بخبر يقين مثل قوله الحق:

وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ
(من الآية 23 سورة الإسراء)


وقد يكون "قضى" بمعنى حكم حكما لازماً كما تقول: قضى القاضي. إذن فكلها تدور حول معنى: فصل بحكمة. "فإذا قضيتم مناسككم فاذكروا الله". أي إذا فرغتم من مناسككم، والمناسك هي الأماكن لعبادة ما، فعرفات مكان للموقف، و"مزدلفة" مكان للمشعر الحرام يبيت فيه الحجاج. و"منى" منسك للمبيت أيضا، إذن كل مكان فيه عبادة يسمى "منسكا".
وقوله سبحانه: "فاذكروا الله" أي فلا يزال ذكر الله دائما وارداً في الآيات، كأنك حين توفق إلى أداء شيء إياك أن تغتر، بل اذكر ربك الذي شرع لك ثم وفقك وأعانك. وكأن الحق يريد أن يضع نهاية لما تعودت عليه العرب في ذلك الزمان فقديما كانوا يحجون، فإذا ما اجتمعت القبائل في منى، كانت كل قبيلة تقف بشاعرها أو بخطيبها ليعدد مآثره ومآثار آبائه، وما كان لهم من مفاخر في الجاهلية ويحملون الديات، ويحملون الحمالات، ويطعمون الطعام، ويفعلون غير ذلك من العادات، فأراد الله سبحانه وتعالى أن ينهي فيهم هذه العادة التي هي التفاخر بالآباء وبأعمالهم فقال: "فاذكروا الله كذكركم آباءكم" والذكر معناه توجيه الفكر إلى شيء غير موجود ساعة تأتي به، ولا يمكن أن يذكر الإنسان من أحداث الماضي إلا الحدث الذي له الأثر النافع فيه، وعلى مقدار الأثر النافع يكون الذكر.
وكانوا قديما يطعمون الطعام، والذي يطعم الطعام يؤدي مهمة في مثل هذه البلاد البدائية ـ أي اليدوية ـ وكان من المبالغة في الجفنات أن بعضهم كالمطعم بن عدي مثلا كانت له جفنة يحكي رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يستظل بها ساعة الهجير. والجفنة هي الوعاء الذي يوضع فيه الطعام، فتأمل الجفنة كيف تكون؟! ويحملون الحمالات، بمعنى أنه إذا قامت قبيلة على قبيلة وقتلت منها خلقاً كثيراً يتطوع منهم ذو الحسب وذو المروءة وذو الشهامة وذو النجدة فيحمل كل هذه الآثار في ماله. والديات هي التي يتطوع بدفعها أهل الشهامة منهم إذا ما قتل قاتل قتيلا، ولا يقدر على أن يعطي ديته، وكانت كل تلك الأعمال هي المفاخر.
أراد الحق سبحانه وتعالى أن يردهم في كل شيء إلى ذاته، فقال لهم: أنتم تذكرون آباءكم؛ لأنهم كانوا يفعلون كذا وكذا، وآباؤكم يفتخرون بآبائهم، انقلوها وسلسلوها إلى خالق كل الآباء وكل البشر، فكل ما يجري من خير على يد الآباء مرده إلى الله، فإن ذكرتم آباءكم لما قدموه من خير، فاذكروا من أمدهم بذلك الخير. وهو يريد منهم أن يذكروا الله كذكرهم آباءهم؛ أو أشد ذكرا؛ لأن كل كائن إنما يستحق من الذكر على مقدار ما قدم من الخير، ولن تجد كل الخير إلا لله، إذن لابد أن نذكر الله.
وأيضاً فإن الإسلام أراد أن ينهي التفاخر بالآباء ليجعل الفخر ذاتيا في نفس المؤمن، أي فخرا من عمل جليل نابع وحاصل من الشخص نفسه؛ ولذلك يقولون في أمثال هؤلاء الذين يفخرون بأسلافهم إنهم: "عظاميون" أي منسوبون إلى مجد صنعه من صاروا عظاما تضمها القبور، والله يريدنا أن نكون ذاتيين في مفاخرنا، أي أن نفخر بما نفعل نحن، لا بما فعل آباؤنا، فالآباء أفضوا إلى ما قدموا، ويريد الله أن يأخذ الإنسان ذاتية إيمانية تكليفية. ومن يريد أن يفتخر فليفتخر بنفسه ولذلك يقول الشاعر:
ولا تـكـونـوا عظـامـيـين مـفـخـرة
مـاضـيـهـم عـامـر فـي حـاضر خـرب
لا يـنـفع الحسـب المـوروث مـن قـدم
إلا ذوي هـمــة غـاروا عـلـى الحـسـب
والعـود مـن مـثمـر إن لـم يلـد ثمـراً
عـدوه مـهـمـا سـمـا أصـلاً مـن الحطب
فالنبات الذي ليس له ثمرة، يعتبره الناس مجرد حطب،ويريد الحق أن ينبه في المؤمن ذاتية تفعل، وليس ذاتية تفتخر بأنه كان وكان، بل على كل إنسان أن يقدم ما يفتخر به:
لـيـس الفـتـى مـن يـقـول كان أبي
إن الفـتــى مــن يـقــول هـأنــذا
وعندما كان العرب يتفاخر بعضهم على بعض يقول أحدهم للآخر: يا أخي أنت تفتخر علي بماذا؟
فيرد عليه الثاني: أفتخر عليك بآبائي وأجدادي.
فيرد الأول: اذكر جيدا أن مجد آبائك انتهى بك، ومجد آبائي بدأ بي، ولماذا لا اجعل لآبائي الفخر بأنهم أنجبوني؟
وفي ذلك يقول أحدهم:
قـالـوا أبـو القصر من شيبان قلت لهم
كـلا لعـمـري ولـكـن مـنه شـيـبان
وكـم أبٍ قـد عـلا بـابـن ذرا شرف
كـمـا عـلـت بـرسـول الله عـدنـأن
ومادام القوم يفتخرون بحي منهم، فهم يلتحمون بمن يعطيهم المدد ليكونوا شيئا باقيا ومؤثرا في الوجود، وليس بذلك الشيء المحدود المتمثل في أنه يطعم الطعام، ويحمل الحمالات ويؤدي الديات، وإنما يكون بحمل رسالة الإنسانية العالمية. "فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشد ذكرا". لأن ذكركم الله سيصلكم بالمدد منه، ويعطيكم المعونة لتكونوا أهلا لقيادة حركة الحياة في الأرض، فتوطدوا فيها الأمن والسلام والرحمة والعدل، وهذا هو ما يجب أن يكون مجالا للفخر. وبعد ذلك يلفتنا الحق فيما يأتي إلى أن الإنسان إذا ما قضى المناسك كان أهلا لأن يضرع إلى الله، ويسأل الله بما يحب أن يسأله، والسؤال لله يختلف باختلاف همة السائلين، وكانوا لا يسألون الله إلا قائلين: يا رب أعطني إبلاً، يا رب أعطني غنماً، يا رب أعطني بقراً، ويا رب أعطني حائطاً ـ أي بستاناً ـ، يا رب كما أعطيت أبي أعطيني.
ولم يكن في بالهم إلا الأمور المادية، وأراد الله أن يجعلهم يرتفعون بالمسألة لله، وأن يصعدوها إلى شيء أخلد وأبقى وأنفع، ومن هنا تأتي المزية الإيمانية، فإذا كنتم ستسألون الله متاعا من متاع الدنيا فما الفارق بينكم وبين أهل الجاهلية؟ ذلك ما نفهمه من قول الله عز وجل في ختام هذه الآية: "فمن الناس من يقول ربنا آتنا في الدنيا وما له في الآخرة من خلاق". فالعبد حين يؤدي مناسكه لله يجد نفسه أهلا لأن يسأل الله، ومادمت قد وجدت نفسك أهلا لأن تسأل الله فاسأل الله بخير باق؛ لأن الإنسان إنما يصعد حاجته إلى المسئول على مقدار مكانة المسئول ومنزلته؛ فقد تذهب لشخص تطلب منه عشرة قروش، وقد تذهب لآخر أغنى من الأول فتقول له: أعطني جنيها، ولثالث: تطلب منه عشر جنيهات، إنك تطلب على قدر همة كل منهم في الإجابة على سؤالك.
إذن مادام العباد بعد أداء المناسك في موقف سؤال لله فليصعدوا مسألتهم لله وليطلبوا منه النافع أبداً، ولا ينحطوا بالسؤال إلى الأمور الدنيوية الفانية البحتة. "فمن الناس من يقول ربنا آتنا في الدنيا وما له في الآخر من خلاق" إن العبد قد لا يريد من دعائه لله إلا الدنيا، ولا حظ ولا نصيب له في الآخرة، ومثل هذا الإنسان يكون ساقط الهمة؛ لأنه طلب شيئا في الدنيا الفانية، ويريد الله أن نصعد همتنا الإيمانية.
ولذلك يتبعها بقوله الحق.

وِمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ(201)

سورة البقرة

يتبع ان شاء الله فى تفسير الآية التالية