" أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ (133)

 

المراد بالأنعام : الضأن والماعز والإبل والبقر ثمانية أزواج .

 

"وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (134)"

 

فان قلت : فنحن نمر بديارهم فلا نرى الا خلاء تسفو فيه الرياح نعم لقد كانت لهم جنات وعيون هي الآن تحت إطباق التراب

 

" هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا (1)  (98)" مريم (1) الركز : الصوت الخفي ( القاموس القويم 1/ 275 ) والركز : صوت الانسان تسمعه من بعيد نحو : ركز الصائد اذا ناجى كلابه ( لسان العرب – مادة : ركز )

 

"  إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (135)"

 

أي : ان تقوى الله وطاعته لا تعد شكرا على نعمة فحسب انما ايضا تكون لكم وقاية من عذاب الاخرة فلا تظنوا أنكم اخذتم نعم الله ثم بمكانكم الانفلات منه او الهرب من لفائه فلقاؤه حق لا مفر منه ولا مهرب فان لم تخف السابق من النعم فخف اللاحق من النقم .

فمادا كان ردهم على مقالة نبيهم وموعظته لهم ؟

 

" قَالُوا سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ (136)" الشعراء

 

وقولهم " أَوَعَظْتَ .. (136)" الشعراء دليل على ان الحق لابد ان يظهر ولو على السنة المكابرين ولا يكون الوعظ الا لمن علم حكما ثم تركه فيأتي الواعظ ليذكره به فهو – اذن – مرحلة ثانية بعد التعليم فهذا القول منهم اعتراف ودليل انهم علموا المطلوب منهم ثم غفلوا عنه .

وهؤلاء يقولون لنبيهم " سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ (136)" الشعراء يعني أرح نفسك فسواء علينا وعظك وعدم وعظك ونلحظ انهم قالوا : أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ (136)" الشعراء ولم يقولوا مثلا سواء علينا أوعظت ام لم تعظ لان نفي الوعظ يثبت له القدرة عليه .

انما " لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ (136)" الشعراء يعني : امتنع منك الوعظ نهائيا وكأنهم لا يريدون مسالة الوعظ هده أبدا حتى في المستقبل لن يسمعوا له .

 

"  إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ (137) " الشعراء

 

 ان : بمعنى ما النافية يعني : ما هذا الذي جئت به الا "   خُلُقُ .. (137) " الشعراء الأولين يعني : عادة من سبقوك واختلافهم يقصدون الرسل السابقين كما قالوا :

 

" لَقَدْ وُعِدْنَا هَذَا نَحْنُ وَآَبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (68) " النمل

 

وقالوا

"  مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ (15)" يس

 فوصفوا نبيهم ومن سبقوه من الرسل بالكذب والاختلاق وإيجاد شئ لم يكن موجودا .

والخلق : صفة ترسخ في النفس تصدر عنها الأفعال بيسر وسهولة والصفات التي يكتسبها الانسان لا تعطي مهارة من اول الامر بل تعطي مهارة بعد الدربة عليها فتصير عند صاحبها كالحركة الإلية لا تحتاج منه الى مجهود او معاناة .

وسبق ان ضربنا مثلا بالصبي الذي يتعلم مثلا الحياكة وكم يعاني وضربه معلمه في سبيل تعلم لضم الخيط في الإبرة حتى اذا ما تعلمها وأجادها تراه فعل دلك تلقائيا ودون مجهود وربما وهو مغمض العينين .

وانت حينما تتعلم قيادة السيارة مثلا لأول مرة كم تعاني وتقع في أخطاء وأخطار ؟ لكن بعد التدريب والدربة تستطيع قيادتها بمهارة وكأنها مسالة اليه وكذلك الخلق المعنوي مثل هده الدربة والإلية في الماديات .

اذن : خُلُقُ الْأَوَّلِينَ (137) " الشعراء يعني : دعوى ادعوها جميعا أي الرسل .

وفي قراءة أخرى (1) (1) هي قراءة ابن كثير وأبي عمرو والكسائي وقال الهروي : أي اختلافهم وكدبهم والعرب تقول : حدثنا فلان بأحاديث الخلق أي بالخرافات والااحاديث المفتعلة ( تفسير القرطبي 7 / 5005 )  توجه للمرسل إليهم بفتح الخاء وسكون اللام ( خُلُقُ ) أي اختلاق والمعنى : نحن كمن سبقونا من الأمم لا نختلف عنهم :

 

" إِنَّا وَجَدْنَا آَبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آَثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ (23) " الزخرف

 

 وهؤالء السابقون قالوا

 

"  مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ .. (24)" الجاثية

 

فهذه ألفة أصبحت عندنا ثابتة متأصلة في النفس فلا تحاول زحزحتنا عنها فالمراد : نحن مثل السابقين لا نؤمن بمسالة البعث فأرح نفسك فلن يجدي معنا وعظك .

 

" وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (138) "

 

يقولونها صريحة ردا على قوله :"

 

"  إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (135)" الشعراء

 

ثم يقول الحق سبحانه :

 

" فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (139)" الشعراء

 

 وكانت السماء قبل محمد صلي الله عليه وسلم تجعل الرسول يدلي بمعجزته او يقول بمنهجه لكن لا تطلب منه ان يؤدب المعاندين والمعارضين له انما تتولى السماء عنه هذه المهمة فتوقع بالمكذبين عذاب  الاستئصال .

وقد أمنت امة محمد صلي الله عليه وسلم من عذاب الاستئصال فمن كفر برسالة محمد صلي الله عليه وسلم لا يا خذه الله كما اخد المكذبين من الأمم السابقة انما يقول سبحانه :

 

" قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ ...(14)" التوبة

 

وكلمة " فَأَهْلَكْنَاهُمْ .. (139)"الشعراء كلمة صادقة لها دليل في الوجود نراه شاخصا كما يقول سبحانه :

 

" أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ (6) إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ (7) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ (8) " الفجر

 

 نعم كانت لهم حضارة بلغت القمة ولم يكن لها مثيل ومع هذا كله ما استطاعت ان تصون نفسها واجدها الله اخد عزيز مقتدر قال تعالى :

 

" وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ (137) وَبِاللَّيْلِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (138)" الصافات

 

وقال :

 

" فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا ..(52)" النمل

 

 

أي : انها شاخصة أمامكم ترونها وتمرون عليها وانتم لم تبلغوا مبلغ هذه الحضارة فإذا كانت حضارتهم لم تمنعهم من أخذ الله العزيز المقتدر فينبغي عليكم ان تنتبهوا الى إنكم اضعف منهم وان ما حاق بالكافرين وما نزل بالمكذبين ليس ببعيد عن أمثالهم من الأمم الأخرى .

لذلك تجد الحضارات التي تتوارث في الكون كلها آلت الى زوال

ولم نجد منها حضارة بقيت من البداية الى النهاية ولو بنيت هذه الحضارات على قيم ثابتة لكان فيها المناعة ضد الزوال .

وقوله تعالى :" إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً .. (139)" الشعراء أي ان إهلاك هذه الحضارة لأمر عظيم يلفت الانظار ويدعو للتأمل : "  وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (139)" الشعراء

 

"  وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (140)

 

قال "  رَبَّكَ .. (140)" الشعراء ولم يقل ربهم لان منزلة المربي تعظم في التربية بمقدار كمال المربي فكأنه تعالى يقول : انا ربك الذي أكملت تربيتك على أحسن حال فمن أراد ان يرى قدرة الربوبيبية فليرها في تربيتك انت والمربي يبلغ القمة في التربية ان كان من رباه عظيما .

لذلك يقول صلي الله عليه وسلم

 

" أدبني ربي فأحسن تأديبي " (1). (1) قال العجلوني في كشف الخفاء (1/ 72) : " قال ابن تيمية : لا يعرف له اسناد ثابت لكن قال السيوطي في الدرر : صححه أبو الفضل بن ناصر وقل السييوطي في اللآلئ : معناه صحيح لكن لم يات من طريق صحيح ".

 

 

اذن : فمن عظمة الحق – تبارك وتعالى – ان يعطي نموذجا لدقة تربيته تعالى ولعظمة تكوينه ولما يصنعه على عينه تعالى  بمحمد صلي الله عليه وسلم فكأنه صلي الله عليه وسلم أكرم مخلوق مربى في الأرض لذلك قال"  رَبَّكَ .. (140) " الشعراء ولم يقل : ربهم مع ان الكلام ما يزال متعلقا بهم .

وقوله تعالى :" لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (140)" الشعراء العزيز قلنا : هو الذي يغلب ولا يغلب لكن لا تظن ان في هذه الصفة جبروتا لانه تعالى أيضا رحيم ومن عظمة الأسلوب ألقراني ان يجمع بين هاتين الصفتين : عزيز ورحيم وكأنه يشير لنا الى مبدأ إسلامي يربي الإسلام على إتباعه الا وهو الاعتدال فلا تطغى عليك خصلة او طبع او خلق والزم الوسط لان كل طبع في الانسان له مهمة .

وتامل قول الله تعالى في صفات المؤمنين :

 

" أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ ..  (54) " المائدة

 

فالمسلم ليس مجبولا على الذلة ول على العزة انما الموقف هو الذي يجعله دليلا او يجعله عزيزا فالمؤمن يتصف بالذلة والخضوع للمؤمنين ويتصف بالعزة على الكافرين .

ومن دلك ايضا :

 

" مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ .. (29)" الفتح

 

 ومعلوم ان الرحمة في غير موضعها ضعف وخور فمثلا الوالد الذي يرفض ان يجري لولده جراحة خطرة فيها نجاته وسلامته خوفا عليه نقول له : انها رحمة حمقاء وعطف في غير محله .