يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (94)

 

فيأيها المؤمنون حين تضربون فى سبيل الله فتبينوا وتثبتوا فلا تعمل سيوفكم أو رماحكم أو سهامكم إلا بعد أن تتثبتوا: " ولا تقولوا لم ألقى إليكم السلام لست مؤمنا تبتغون عرض الحياة الدنيا فعند الله مغانم كثيرة كذلك كنتم من قبل فمن الله عليكم فتبينوا إن الله كان بما تعملون خبيراً "

 

إذن فهذه آية تجمع بين كل المعانى، ففيها الحكم وحيثيته والمراد منه، وسبحانه يبدأها بقوله :" ياأيها الذين آمنوا"، والخطاب الإيمانى حيثية الالتزام بالحكم، فلم يقل : " يا أيها الناس إذا ضربتم فتبينوا" ، ولكنه قال: " يا ايها الذين آمنوا إذا ضربتم فى سبيل الله فتبينوا " فهو يطلب المؤمنين به بحكم لأنهم آمنوا به إلهاً وما داموا قد آمنوا فعليهم اتباع ما يطلبه الله. فحيثية كل حكم من الأحكام أن المؤمن قد آمن بمن أصدر الحكم، فإياك أيها المؤمن أن تقول: " ما العلة " أو " ما الحكمة " وذلك حتى لاتدخل نفسك فى متاهة. ولانزال نكرر هذه المسألة، لأن هذه المسألة تطفو فى أذهان الناس كثيراً، ويسأل بعضهم عن حكمة كل شئ، ولذلك نقول: الشئ إذا عرفت حكمته صرت الى الحكمة لا إلى الآمر بالحكم.

 

ونرى الآن المسرفين على أنفسهم الذين لايؤمنون بإله، أو يؤمنون بالله ولكنهم ارتكبوا الكبائر من شهادة زور، غلى ربا، إلى شرب خمر، وعندما يحلل الأطباء للكشف عن كبد شارب الخمر- على سبيل المثال – نجده قد تليف، وأن أى جرعة خمر ستسببب الوفاة. هنا يمتنع عن شرب الخمر. لماذا امتنع؟. لأنه عرف الحكمة. وقد يكون قائلها له مجوسياً، فهل كان امتناعه عن الحكم تنفيذاً لمر إلهى؟. لا، ولكن المؤمن يمتنع عن الخمر لأنها حرمت بحكم من الله والمؤمن ينفذ كل الأحكام حتى فى الأشياء غير الضارة، فمن الذى قال: إن الله لايحرم إلا الشئ الضار؟ إنه قد يحرم أمراً تأديباً للإنسان . ونضرب هذا المثل – ولله المثل الأعلى – نجد الزوج يقول لزوجه: إياك أن تعطى ابننا بعضاً من الحلوى التى أحضرتها. هو يحرم على ابنه الحلوى لا لأنها ضارة، ولكنه يريد تأديب الابن والتزامه.

 

والحق يقول:

(فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ)

(من الآية 160سورة النساء)

 

فالذى يذهب إلى تنفيذ حكم الله إنما يذهب إليه لأن الله قد قاله، لا لأن حكمة الحكم مفيدة له، فلو ذهب إنسان إلى الحكم من أجل فائدته أو ضرره فإن الإيمان يكون ناقصاً، والله يدير فى كثير من الأوقات حكمته فى الأحكام حتى يرى الإنسان وجهاً من الوجوه الانهائية لحكمة الله التى خفيت عليه، فيقول الإنسان : أنا كنت أقف فى حكمة كذا، ثم بينت لى الأحداث والأيام صدق الله فيما قال. وهذا يشجع الإنسان أن يأخذ أحكام الله وهو مسلَم بها.

 

والحق يقول:" ياأيها الذين آمنوا " والإيمان هو الحيثية، يامن آمنت بى إلهاً قادراً حكيماً.. اسمع منى ما أريده منك :" يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم فى سبيل الله  " والضرب – كما نعرف – هو انفعال الجارحة على شئ آخر بعنف وقوة. وقوله

( وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ  )

( من الآية 101 سورة النساء )

 

معناها أن الحياة كلها حركة وانفعال، ولماذا الضرب فى الأرض؟. لأن الله أودع فيها كل أقوات الخلق، فخين يحبون أن يُخرجوا خيراتها؛ يقومون بحرثها حتى يهيجوها، ويرموا البذور، وبعد ذلك الَرى . ومن بعد ذلك تخرج الثمار، وهذه هى عملية إثارة الأرض . إذن كل حركة تحتاج إلى شدة ومكافحة، والحق يقول:

(وَآَخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ )

( من الآية 20 سورة المزمل  )

 

ومادامت المسألة ضرباً فى الأرض فهى تحتاج إلى عزم من الإنسان وإلى قوة.

ولذلك يقال : الأرض تحب من يهينها بالعزق والحرث. وكلما اشتدت حركة الإنسان فى الأرض أخرجت له خيراً . والضرب فى سبيل الله هو الجهاد، أو لإعداد مقومات الجهاد. والحق سبحانه يقول لنا:

( وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ )

( من الآية 60  سورة الأنفال )

 

فالإعداد هو أمر يسبق المعارك ، وكيف يتم الإعداد؟.

 

أن نقوم بإعداد الأجسام ، والأجسام تحتاج إلى مقومات الحياة . وأن نقوم بإعداد العُدُد . والعدد تحتاج إلى بحث فى عناصر الأرض ، وبحث فى الصناعات المختلفة لنختار الأفضل منها. وكل عمليات الإعداد تطلب من الإنسان البحث والصنعة ولذلك يقال فى الأثر الصالح :

" إن السهم الواحد فى سبيل الله يغفر الله به لأربعة " .

 

لماذا؟. لأن هناك إنساناً قام بقطع الخشب الذى يتم منه صناعة السهم وصقله، وهناك إنسان وضع للسهم الريش حتى يطيره إلى الأمام، وهناك واضع النَبل ، وهناك من يرمى السهم بالقوس.

 

والحق يريد منا أن نكون أقوياء حتى يكون الضرب منا قوياً، فيقول : " إذا ضربتم فى سبيل الله فتبينوا " ونعرف أن الضرب فى سبيل الله لا يكون فى ساعة الجهاد فقط ، ولكن فى كل أحوال الحياة؛ لأن كل مالايتم الواجب إلا به فهو واجب . و" تبينوا "

تعنى ألا تأخذوا الأمور بظواهرها فلا تمضوا أمراً أو تعملوا عملاً إلا إذا تثبتم وتأكدتم حتى لا يصيب المؤمنون قوماً بظلم.

 

ولهذا الأمر قصة ، كان هناك رجل اسمه "محلَم بن جَثَامة" ، وكان بينه وبين آخر اسمه "عامر بن الأضبط الأشجعى" إحن – أى شئ من البغضاء – وبعد ذلك كان "محلم" فى سرية ، وهى بعض من الجند المحدود العدد وصادف "عامراً الأشجعى"، وكان " عامر" قد أسلم ، لذلك  ألقى السلام  إلى "محلَم" فقال "محلَم" : إن عامراً قد أسلم ليهرب منى . وقتل محلم عامراً . وذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وساله الرسول : ولماذا لم تتبين؟. ألم يلق إليك السلام، فكيف تقول إنه يقول : " السلام عليكم " لينقذ نفسه من القتل؟

 

" فقال "محلَم" : استغفر لى يا رسول الله.

 

وإذا ما قال أحد لرسول الله : استغفر لى يا رسول الله .. فرسول الله ببصيرته الإيمانية يعرف على الفور حالَ طالبِ الاستغفار، فإن قال رسول الله: "غفر الله لك"

فهو يعلم أنه كان معذوراً، وإن لم يقل رسول الله ذلك، فيعرف طال الاستغفار أنه مذنب. ولأن بين "محلم" و"عامر" إحنا وعداوات قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمحلم : " لا غفر الله لك " ؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم علم أن الإحَنَ والبغضاء. هى التى جعلته لايدقق فى أمر "عامر"

 

وقال الرواة: ومات محلَم بعد سبعة أيام من هذه الحادثة، ودفنوه فلفظته الأرض. فجاءوا إلى النبى صلى الله عليه وسلم فذكروا ذلك له فقال : ( إن الأرض تقبل مَن هِو شر من صاحبكم ولكن الله أراد أن يعظكم ، ثم طرحوه بين صدفى جبل وألقوا عليه الحجارة )تفسير القرآن العظيم للإمام ابن كثير

 

 

 

وعندما كانت تأتى آية مخالفة لنواميس الدنيا المفهومة للناس فالنبى يريد ألا يفتتن فى هذه الآيات، ومثال ذلك عندما مات إبراهيم ابن النبى.. انكسفت الشمس..وقال الناس : انكسفت الشمس من أجل ابن رسول الله . ولكن لأن المسألة مسألة عقائد فقد وضحها رسول الله صلى الله عليه وسلم كما جاء فى الحديث الشريف:

 

عن المغيرة بن شعبة قال: كسفت الشمس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم مات ابراهيم، فقال الناس: كسفت الشمس لموت ابراهيم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إن الشمس والقمر لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته فغذا رأيتم فصلوا وادعو الله"رواه البخارى

 

لقد قالوا ذلك تكريماً لرسول الله وابنه إبراهيم، ولكن الرسول يريد ان يصحح للناس مفاهيمهم وعقائدهم. وكذلك عندما لفظت الأرض "محلم" حتى لا يفتتن أحد ولا يقولن أحد. إن كل من لا تلفظه الأرض هو حسن العمل، فهناك كفار كثيرون قد دفنوا ولم يلفظوا. لذلك قال رسول الله : إن الأرض قبلت من هو شر من " محلم" ولكن الله أراد أن يعظ الناس حتى لا يعودوا لمثلها، ولو لم يقل ذلك، فماذا كان يحدث؟. قد تحدث هِزة قليلة فى جزئية ولظن الناس وقالوا: إن كل من لم تلفظه الأرض فهو حسن العمل، ولكان ابو جهل فى حال لا بأس به، وكذلك الوليد بن المغيرة. لكن الرسول صلى الله عليه وسلم يضع مثل هذه الأمور فى وضعها الصحيح؛ لذلك قال: غن الأرض تقبل من هو شر من "محلم"، ولكن الله أراد أن يعظ القوم ألاَ يعودوا رواه احمد وابن جرير

 

"ياأيها الذين آمنوا إذا ضربتم فى سبيل الله فتبينوا ولا تقولوا لمن القى إليكم السلام لست مؤمناً"

 

وعلى ذكر ذلك قال لى أخ كريم: كنت أسمع إحدى الإذاعات وأخطأوا وقالوا (فتثبتوا) بدل من (فتبينوا) فى قوله الحق:

 

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا)

(من الآية 6 سورة الحجرات)

 

وأقول: هذه قراءة من القراءات، والمعانى دائماً ملتقية، فـ "تبين" معناها "طلب البيان لَيثبت". ونعرف أن القرآن قد نزل على سبعة أحرف، وكتابة القرآن كانت بغير نقط وبغير شكل، وهذا حال غير حالنا؛ حيث نجد الحروف قد تم تشكيلها بالفتحة والضمة والكسرة.

 

ونحن نعرف أن هناك حروفاً مشتبهة الصورة. فــ "الباء" تتشابه مع كل من: "الياء"، والـ "نون" والـ "تاء" والـ "ثاء"، ولم تكن هذه النقط موجودة، ولم تكن هذه العلامات موجودة قبل الحجاج الثقفى، وكانوا يقرأون من ملكة العربية ومن تلقين واتباع للوحى، ولذلك: "فتبينوا" ممن تتكون؟ تتكون من : الـ "فاء" ولم يحدث فيها خلاف، والـ "تاء" وبقية الحروف هى الـ "باء" والـ "ياء" والـ "نون".

 

وكل واحدة من هذه الأحرف تصلح أن تجعلها "تثبتوا" بوضع النقاط أو تجعلها "تبينوا"، إنه خلاف فى النقط. ولو حذفنا النقط لقرأناها على أكثر من صورة والذى نتبعه فى ذلك هو ماورد عن الوحى الذى نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم.

 

ولذلك عندما جاءوا بشخص لم يكن يحفظ القرآن وأحضروا له مصحفاً ليقرأ مافيه فقال: (صنعة الله ومن أحسن من الله صنعة).

 

ولم يحدث خلاف فى الـ "صاد" ولكن حدث خلاف فى الـ "باء" فهى صالحة لتكون باءً أو نوناً، وكذلك "الغين" يمكن أن تكون "عيْناً" وقراءة هذه الآية فى قراءة "حفص":

 

(صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً)

(من الآية 138 سورة البقرة)

 

وعندما قرأها الإنسان الذى لا يجيد حفظ القرآن قال: (صنعة الله ومن أحسن مت الله صنعة). والمعنى واحد.

 

ولكن قراءة القرآن توقيفية ، واتباع للوحى الذى نزل به جبريل - عليه السلام - من عند الله على رسوله – صلى الله عليه وسلم – ولا يصح لأحد أن يقرأ القرآن حسب ما يراه وإن كانت صورة الكلمة تقبل ذلك وتتسع له ولاتمنعه، ولذا قالوا: أن للقراءة الصحيحة أركانا هى:

 

1-   أن تكون موافقة لوجه من وجوه اللغة العربية.

2-   أن تكون موافقة لرسم أحد المصاحف العثمانية.

3-   أن يصح إسنادها إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بطريق يقينى متواتر لا يحتمل الشك.

 

وهذه الضوابط نظمها صاحب طيبة النشر فقال:

 

وكـــل مــا وافق وجــه نحــو                     وكـــان للرسم احتـــمالا يحــــوى

وصـــح إسنــــادا هــــو القـــرآن                 فــهــذه الــثـــلاثـــة الأركــــان

 

وقوله تعالى:

 

(قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ)

(من الآية 156 سورة الأعراف)

 

هذه هى قراءة "حفص" وقرأ الحسن : (قال عذابى أصيب به من أساء)

 

صحيح أن كلمة "أساء" وهى من الإساءة فيها ملحظ  آخر للمعنى، لكن القراءة الأخرى لم تبعد بالمعنى، وعلى ذلك فكلمة "فتبينوا" تُقْرَأ مرة "فتثبتوا" ومرة تقرأ "فتبينوا"، سواء فى هذه الآية التى نحن بصددها، أو فى الآية التى يقول فيها الحق:

 

(إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا)

(من الآية 6 سورة الحجرات)

 

و"التبين" القصد منه التثبت، والتبين يقتضى الذكاء والفطنة فيرى ملامح إيمان من ألقى إليه بالسلام:

 

(وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ)

(من الآية 94 سورة النساء)

 فالمسلم يجب ان يفطن كيلا ياخذ إنساناً بالشبهات، ولذلك نجد النبى يحزم الأمر مع أسامة بن زيد الذى قتل واحداً بعد أن أعلن هذا الواحد إسلامه، فقال له النبى صلى الله عليه وسلم: (فكيف بلا إله إلا الله. هل شققت عن قلبه)؟

 

ويقول أسامة للرسول: لقد قال الشهادة ليحمى نفسه من الموت. وتكون الإجابة : هل شققت قلبه فعرفت، فكيف بلا إله إلا الله؟! فلقول:"لا إله إلا الله" حرمة.

 

وقد روى أن الذى نزلت فيه هذه الآية هو محلم بن جثامة ، وقال بعضهم: أسامة بن زيد ، وقيل غير ذلك. عن ابن عباس رضى الله عنهما "ولا تقولوا لمن أالقى إليكم السلاملست مؤمنا" وقال : كان رجل فى غنيمة لف فلحقه المسلمون فقال:السلام عليكم فقتلوه وأخذوا غنيمته، فأنزل الله فى ذلك : " ولا تقولوا لم ألقى إليكم السلام لست مؤمنا"رواه البخارى.

 

 

وأهل العلم بالله يقولون: نجاة ألف كافر خير من قتل مؤمن واحد بغير حق.

 

وجاء فى بعض الروايات الأخرى أنه المقداد، وذلك فيما رواه البزار بسنده عن ابن عباس رضى الله عنهما قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية فيها المقداد بن السود فلما أتوا القوم وجدوهم قد تفرقوا وبقى رجل له مال كثير لم يبرح، فقال أشهد أن لا إله إلا الله، وأهوى إليه المقداد فقتله فقال له رجل من أصحابه: أقتلت رجلا شهد ان لا إله إلا الله؟ والله لأذكرن ذلك للنبى صلى الله عليه وسلم، فلما قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا يارسول الله: إن رجلا شهد أن لا إله إلا الله فقتله المقداد فقال: ادعوا لى المقداد. يا مقداد أقتلت رجلا يقول : لا إله إلا الله؟ فكيف لك بلا إله إلا الله غدا؟ قال: فأنزل الله "يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم فى سبيل الله"رواه البزار.

"يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم فى سبيل الله فتبينوا ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمناَ تبتغون عرض الحياة الدنيا" و"ألقى إليكم السلام" يعنى جاءكم مستسلما، أو قال تحية المسلمين، وليس من حق أحد أن يلقى الاتهام بعدم الإيمان على من اء مسلماً، أو يقول بتحية الإسلام.

 

وكلمة "عرض" إذا ما سمعناها ، فلنعلم أنها فى المعنى اللغوى: كل ما يعرض ويزول وليس له دوام أو استقرار أو ثبات. ونحن البش لأعراض؛ لأنه ليس لنا دوام أبداً، ويقال: إن الإنسان عرض إذا ما قاس الواحد منا نفسه بالنسبة للكون؛ لأن الكون لا يتم بناؤه على الإنسان؛ فالكون كله الذى نراه هو عرض وسيأتى يوم ويزول.

 

والعرض بالنسبة للإنسان أن الواحد منا قد يرى نفسه صحيحاً أو سقيماً، هنا تكون الصحة عرضا وكذلك المرض، وكذلك السمنة والنحافة، ولون البشرة إذا مالوخته الشمس قد يتغير من أبيض إلى أسمر، وكذلك الغنى والفقر. وكل شئ يمكن أن يذهب فى الإنسان ويجئ هو عرض بالنسبة للإنسان، ويكون الإنسان جوهراً بالنسبة له. فإذا قسنا الإنسان إلى ثابت عنه، فالإنسان عرض، فهذا أمر نسبى، وإلاَ فكل شئ عرض، وكل شئ زائل "ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام".

 

"ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمناً تبتغون عرض الحياة الدنيا".

وعرض الحياة الدنيا هنا هو أن يطمع القاتل فيما يملكه الذى يلقى السلام، وقد يكون عرض الحياة الدنيا – هنا – هو كبرياء نفس الإنسان عندما ينتقم من إنسان بينه وبينه إحن أو بغضاء.

 

 

وعندما نجد كلمة "عرض" وهذا العرض فى "الحياة الدنيا" نفهم – إذن – أنه عرض فيما لا قيمة له. ولذلك نجد الشاعر يعبر عن مشاعر الإنسان حينما يحزن لفقدان شئ كان عنده، وينسى الإنسان أنه هو شخصياً معرض للموت، أى للذهاب عن الدنيا فيقول:

 

نــفسى الــتى تمــلك الأشياء ذاهبة               فكـــيـــف آسى على شئ لها ذهـــبــــا

 

وكذلك عرض الحياة الدنيا. ونفهم كلمة "دنيا" على أساس الاشتقاق، فهى من "الدنو" ومقابله "العلو" ومقابل "الدنيا" هو "العليا". ومن يُفَوِم عرض الحياة الدنيا التقويم الصحيح فهو يملك الذكاء والحكمة والفطنة؛ لذلك لا يأخذ هذا العرض ممن سيقتله عندما يلقى إليه بالسلام؛ لأنه يستخدم البصيرة الإيمانية ويأخذ الحياة الدنيا ممن خلقها. والعاقل حتى لو أراد الحياة الدنيا فهو يطلبها من صاحب الحياة كلها، ولا يأخذها من إنسان مثله، فالحياة الدنيا لا تنفعه؛ بدليل أنه معرض للقتل.

 

"تبتغون عرض الحياة الدنيا فعند الله مغانم كثيرة" والحق سبخانه وتعالى ساعة يخاطب النفس البشرية التى خلقها، ويعلم تعلقها بالأشياء التى تنفعها أو تطيل نفعها، مثال ذلك: أنَ الإنسان يكون سعيداً إذا ما ملك غداءه، وتكون سعادته أكثر إذا امتلك الغداء والعشاء، ويكون أكثر سعادة واطمئنانا عندما يملك فى مخزن طعامه مايقيته شهراً أو عاماً، ويكون أكثر إشراقاً عندما يمتلك أرضاً يأخذ منها الرزق، ويمتلكها أولاده من بعده.

 

إذن فالإنسان يحب الحياة لنفسه، ويحب امتداد حياته فى غيره، ولذلك يحزن الإنسان عندما لايكون له أولاد؛ فهو يعرف أنه ميت لا محاله، لذلك فهو يتمنى أن تكون حياته موصولة فى ابنه، وإن جاء لابنه ابن وصار لإنسان حفيد فهو يسعد اكثر؛ لأن ذكره يوجد فى جيلين. ونقول لمثل هذا الإنسان: لنفرض أنك ستحيا ألف جيل، لكن ماذا عن حالتك فى الآخرة، أَلا تُنَشِئ ولدك على الصلاح حتى يدعو لك؟

 

ولذلك يفاجئ الحق النفس البشرية التى تهفو إلى المغانم، ويكشفها أمام صاحبها، فيأتى بالحكم الذى يُظهر الخواطر التى تجول فى النفس ساعة سماع الحكم.وعندما أراد سبحانه أن يُحرم دخول المشركين البيت الحرام، يعلم خفايا النفوس؛ لأن المشركين حين يدخلون البيت الحرام بتجاراتهم وأموالهم إنما يدخلون مكة من أجل موسم اقتصادى يبيعون فيه البضائع التى يعيشون من ريعها وربحها طوال العام. وساعة يحرم سبحانه دخول المشركين إلى البيت الحرام، يعلم أن أهل الحرم ساعة يسمعون هذا الحكم سيتذكرون مكاسبهم من التجارة، فقال:

 

 

(إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا)

(من الآية 28 سورة التوبة)

 

وقبل أن يقول  أهل الحرم فى أنفسهم: وكيف نعيش ونصرف بضائعنا؟، يتابع سبحانه:

 

(وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ)

 

(من الآية 28 سورة التوبة)

 

وبذلك يكشف الحق أمام النفوس خواطرها الدفينة؛ فهو العليم بأن الحكم ساعة ينزل مالذى سيحدث فى أذهان سامعيه؛ فهو خالقهم، ولذلك فلا أخد من بعد ذلك تعليق!

 

وقوله الحق:"تبتغون عرض الحياة الدنيا" ينطبق فى كل عصر وفى كل زمان. ويقول الحق بعد ذلك : " فعند الله مغانم كثيرة". فسبحانه الرزَاق الوهاب. ولذلك أنا أحب أن يزين الناس أماكنهم ومساكنهم بلوحات فنيه مكتوب عليها:

 

(وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ)

 

(من الآية 28 سورة التوبة)

وكذلك قول الحق:

(تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ)

(من الآية 94 سورة النساء)

 

لعل ذلك يمس قلوب من بيدهم الأمر، فيلتفتوا إلى الله. وبعد ذلك يقول الحق:"كذلك كنتم من قبل فمن الله عليكم فتبينوا إن الله كان بما تعملون خبيرا".

 

وفى هذا دعوة لأن يمر من نزل فيهم القرآن بتاريخهم القريب ويسترجعوا ماضيهم، فلماذا يتهم المسلم أخاه الذى يلقى السلام بأنه مازال كافراً ولا يفكر أن الذى القى إليه السلام هو إنسان يستر إسلامه بين أهله لأنهم كفار؟ وكان المسلم يمر بهذه الحالة عند بداية الإسلام؛ كان المسلم يستر غسلامه عن أهله الذين كانوا كافرين. وكان المسلمون الأوائل قلة مستذلة تدارى إيمانها، فهل سلط الله عليهم أحداً يجترئ على التفتيش على النوايا؟ إذن فمثلما حدث لكم قدروه لإخوانكم.

"كذلك كنتم من قبل فمن الله عليكم" والحق يمن عليهم بانهم صاروا أهل رفعة بكلمة الإسلام، وصار المسلم منهم يمشى عزيز الجانب ولا يجرؤ واخد ان يوجه غليه أى شئ. وياتى سبحانه هنا بكلمة "فتبينوا" مرة أخرى بعد ان قالها فى صدر الآية. وكان مقصوداً بها ألا يقتل مسلم إنساناً القى السلام لمجرد أن المسلم يفكر فى المسألة الاقتصادية، وها هوذا يعيد سبحانه كلمة "تبينوا"، لقد جاءت أولاً كتمهيد للحيثية، وهى قوله: " تبتغون عرض الحياة الدنيا" وتاتى هاهنا نتيجة للحيثية "فتبينوا إن الله كان بما تعملون خبيرا"

 

وسبحانه حين يشرع لا يشرع عن خلاء، لكنه خبير بكل ما يصلح النفس الإنسانية، ولا يعتقدن أحد أنه خلقنا ثم هدانا إلى الإيمان ليخذلنا فى نظام الحياة بل خلقنا وأعطانا المنهج لنكون نموذجاً، وليرى الناس جميعاً أن الذى يحيا فى رحاب المنهج تدين له الدنيا.

 

"إن الله كان بما تعملون خبيرا". كأن الحق يقول: إياك أن تستر بلباقتك شيئاً وتخلع عليه أمرا غير حقيقى؛ لأن الذى تطلب جزاءه هو الرقيب عليك والحسيب، ويعلم المسالة من أولها إلى آخرها. فالذى يقتل إنساناً ألقى إليه السلام، لم يقتله لأنه لم يُسلم، ولكن لأن بينهما إحناً وبغضاء، وعليه أن يعرف أن الله عليم بما فى النفوس.

 

ويريد الحق أن يتثبت المؤمن من نفسه حين يوجهها إلى قتل أحد يشك فى إسلامه أو فى إيمانه، وحسبه من التيقن أن يبدأه صاحبه بالسلام، ويُذَكرالحق سبحانه المؤمنين بانهم كانوا قبل ذلك يستخفون من الناس بالإيمان وكانوا مستترين.

 

فإذا كنتم أيها المؤمنون قد حدث لكم ذلك فاحترموا من غيركم أن يحصل منه ذلك، وثقوا تمام الثقة أن الله عليم خبير، لا يجوز عليه – سبحانه – ولا يخفى عليه أن يدس أحدكم الإحن النفسية ليُبرر قتل إنسان مسلم كانت بينه وبين ذلك المسلم عداوة.

 

وبعد أن تكلم الحق عن قتال المؤمنين للكافرين، وبعد أن تكلم عن تحريم قتل المؤمن للمؤمن حتى لا يفقد المؤمنون خلية الإيمان ، بل تكون حياة كل مؤمن خيراً للحركة الإيمانية فى الأرض، لذلك علينا أن نحافظ على حياة كل فرد مؤمن لأنه سيساعدنا فى اتساع الحركة الإيمانية، فإن حدث أن قتل مؤمن مؤمناً خطأ، فقد بين سبحانه وتعالى الحكم فى الآية رقم 92 من سورة النساء.

 

وبعد ذلك أراد الحق سبحانه وتعالى أن يبين الفارق بين من قعد عن الجهاد فى سبيل الله ومن جاهد فقال سبحانه :

 

لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (95)