لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (95)

 

ولهذه الآية قصة .. واقتناص الخواطر من هذه القصة يتطلب يقظة تعلمنا كيف يخاطب الحق خلقه. فقد حدثنا سيدنا زيد بن ثابت وهو المامون على كتابة وحى رسول الله. وهو المأمون على جمع كتاب الله من اللخاف(1) ومن العظام ومن صدور الصحابة، حدثنا فقال:

 

-   كنت إلى جنب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فغشيته السكينة – وهذه كانت دائماً تسبق نزول الوحى على رسول الله- فوقعت فخذه على فخذى حتى خشيت أن تَرُضَها.

 

أى أن فخذ رسول الله كانت ثقيلة.

 

والوحى ساعة كان ياتى رسول الله صلى الله عليه وسلم ربما كان يصنع فى كيماوية رسول الله تأثيرا مادياً بحيث إذا كان على دابة عرف الناس نه يوحى إليه؛ لأن الدابة كانت تنط تحته فإذا كانت فخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم على فخذ زيد بن ثابت، فلابد أن يشعر سيدنا زيد بثقل فخذ رسول الله وقد جاءه الوحى. قال زيد: خشيت أن ترض فخذه فخذى – أى تصيبها بالدَق الشديد او الكسر. فلما سُرى عنه قال اكتب:"لايستوى القاعدون من المؤمنين والمجاهدون"، فقال سيدنا ابن أم مكتوم، وكان - كما نعلم – ضريراً مكفوف البصر قال: فكيف بمن لايستطيع الجهاد من المؤمنين يارسول الله؟

 

إنها اليقظة الإيمانية من ابن أم مكتوم، لأنه فهم موقفه من هذا القول ، ومن أنه لا يستطيع الجهاد، وعلم أنه إن كانت الآية ستظل على هذا فلن يكون مستوياً مع من جاهد، ولهذا قال قولته اليقظه: فكيف بمن لا يستطيع ذلك يا رسول الله؟

 

فأخذت رسول الله السكينة ثانيةً، ثم سرى عنه ، فقال لزيد بن ثابت: اكتب: "لا يستوى القاعدون من المؤمنين غير أولى الضرر والمجاهدون فى سبيل الله".

 

 

(1) اللِخاف : حجارة بيض رقاق، واحدها لخفة.

فكأنها نزلت جواباً مطمئناً لمن لا يستطيع القتال مثل ابن أم مكتوم. ولقائل أن يقول: وهل كانت الآية تنتظر أن يستدرك ابن أم مكتوم ليقول هذا؟.

 

 

 

فكأنها نزلت جواباً مطمئناً لمن لا يستطيع القتال مثل ابن أم مكتوم. ولقائل أن يقول: وهل كانت الآية تنتظر أن يستدرك أبن أم مكتوم ليقول هذا؟.

 

ونقول: إن الحق سبحانه وتعالى أراد أن ينبه كل مؤمن أنه حين يتلقى كلمة من الله أن يتدبر ويتبين موقعه من هذه الكلمة؛ فإذا كان ذلك حال سيدنا ابن أم مكتوم فيما سمع رسول الله عن ربه فهو يعلمنا كيف نستحضر دورنا من أيه قضية نسمعها. وحينما سمع ابن أم مكتوم الآية رأى موقفه من الآية، وهذا ما يريده الحق من خلقه.

 

وقال زيد بن ثابت: فكتبتها.

 

إنها الدقة فى أداء زيد بن ثابت لتدلنا على صدق الرواية، فحين يكتب اولاً "لا يستوى القاعدون من المؤمنين والمجاهدون" ألا تلتصق كلمة "والمجاهدون" بكلمة "المؤمنين" فإذا زاد الحق سبحانه وتعالى "غير أولى الضرر" فأين نكتب؟

 

كأن زيد بن ثابت كان عليه أن يقوم بتصغير الكتابة ليكتب "غير أولى الضرر" بين كلمة "من المؤمنين" وكلمة "المجاهدون". قال سيدنا زيد بن ثابت: لقد نزلت "غير أولى الضرر" وحدها وكأنى أنظر إلى ملحقها عند صدع الكتف- فقد كانوا يكتبون على أكتاف العظم – والكتف التى كتب عليها سيدنا زيد بن ثابت كانت مشروخة وكانت هذه علامة بها.

 

ويريد الحق بذلك أن ينبه المؤمنين إلى أنهم حين يتلقون كتاب الله يجب أن يتلقوه بيقظة إيمانية بحيث لا تسمع آذانهم إلا ما يمر على عقولهم أولاً ليفهم كل مؤمن موقفه منها، وتمر الآية على قلوبهم ثانية لتستقر فى ذاتهم عقيدة.

 

كذلك كانت قصة زيد بن ثابت وابن أم مكتوم والوحى فى هذه الآية:

"لايستوى القاعدون من المؤمنين غير اولى الضرر والمجاهدون".

 

وهناك حالات يأتى الفعل فلا يصلح له فاعل واحد بل لابد له من اثنين.. مثال ذلك عندما نقول: تشارك زيد وعمرو. وعندما نصف لاعبى الكرة، نجد من يتلقف الكرة واحداً بعد الآخر، فنقول: تلقف الاعبون الكرة رجلاً بعد رجل.

 

وعندما يقول الحق: "لايستوى" فهذا يدل على أن هناك شيئين لا يتساويان، فأيهما غير المساوى للآخر؟. كلاهما لا يتساوى مع الآخر، ولذلك يكون الاثنان فى الإعراب "فاعلا" ، فلا يساوى المجاهدون القاعدين ولا يساوى القاعدون المجاهدين؛ لأن كلا منهما فاعل ومفعول.

 

وعندما نقول: "لا يستوى القاعدون من المؤمنين" فما هو مقابل "القاعدين"

فى الآية الكريمة؟ إنه "المجاهدون"، لكن المقابل فى الحياة العادية للـ "القاعدين" هو "القائمون"، ومقابل "المجاهدين" هو "غير المجاهدين" . وبذلك كان من الممكن القول: لا يستوى القاعدون والقائمون، أو أن يقال: لا يستوى المجاهدون وغير المجاهدين. فما الحكمة فى مجئ القاعدين والمجاهدين؟

 

إن الحق يريد أن يبين أنه فى بداية الإسلام كان كل مؤمن حين يدخل الإسلام يعتبر نفسه جندياً فى حالة تأهب، وكانوا دائماً على درجة استعداد قصوى ليلبوا النداء فوراً؛ فالمسلم لم يكن فى حالة استرخاء، بل فى تأهب وكأنه واقف دائما ليلبى النداء،

وكأن القاعد هو الذى ليس من صفوف المؤمنين، ويبين لنا ذلك قول الرسول عليه الصلاة والسلام: "من خير معاش الناس لهم رجل ممسك عنان فرسه فى سبيل الله يطير على متنه، كلما سمه هَيْعَةً أو فزعة طار إليها يبتغى القتل والموت مَظَانَه، أو رجل فى غنيمة فى رأس شعفة من هذه الشعف، أو بطن واد من هذه الأوْدية يقيم الصلاة ويؤتى الزكاة ويعبد ربه حتى يأتيه اليقين، ليس من الناس إلا فى خير"(1).

 

فإن لم يكن المؤمن متأهباً فهو قاعد، والقاعد – كما نعرف – هو ضد القائم.

والحق يقول:

 

(فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا)

(من الآية 103 سورة النساء)

 

من هذا القول نعرف أن المقابل للقيام هو القعود.

 

وعلينا أن نعرف أن لكل لفظ معنى محدداً، فبعضنا يتصور أن القعود كالجلوس، ولكن الدقة تقتضى ان نعرف أن القعود يكون عن قيام، وأن الجلوس يكون عن الاضطجاع، فيقال: كان مضطجعاً فجلس، وكان قائماً فقعد.

 

(1) رواه مسلم فى الإمارة وابن ماجه فى الفتن ورواه أحمد. و(الهيعة) هى الصوت عند حضور العدو. و(الفزعة) هى النهوض إلى العدو. و(الشعفة) هى أعلى الجبل.

 

وعندما يقول الحق هنا:"لايستوى القاعدون من المؤمنين غير أولى الضرر" فالقعود مقابل القيام، فكأن المجاهد حالته القيام دائما، وهو لا ينتظر غلى أن يقوم، لكنه فى انتباه وإستعداد. ويوسع الحديث الشريف الدائرة فى مسئوليات المجاهد فيرسم صورة للمقاتل أنه على أتم استعداد وعلى صهوة الفرس وممسك باللجام حتى لاتدهمه أية مفاجأة.

 

وهل كانت هناك مظنة أن يستوى القاعد والمجاهد؟. لا، ولكن يريد الله أن يبين قضية إيمانية مستورة، فيظهرها بشكل واضح لكل الأفهام.

 

ونحن نقول للطالب: "إن من يستذكر ينجح ومن لا يستذكر يرسب" وهذه مسألة بديهية، لكننا نقولها حتى نجعلها واضحة فى بؤرة شعور التلميذ فيلتفت لمسئولياته.

 

وعندما يقول الحق: "لايستوى القاعدون من المؤمنين غير اولى الضرر والمجاهدون فى سبيل الله" هل معنى ذلك أن عقلاً واحداً فى زمن رسول الله كان يظن المساواة بين القاعد والمجاهد؟ لا، ولكن الحق يريدها قضية إيمانية فى بلاغ إيمانى من الله. وبعد ذلك يلفت الأنظار إلى صفة القاعدين الذين لا يستوون مع المجاهدين فيقول: "غير أولى الضرر". والضرر هو الذى يفسد الشئ مثل المرض، وهذا ما يوضحه قوله الحق:

( لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (91) وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ (92))

(سورة التوبة)

 

فالضعف ضرر أخرج الإنسان عن مقومات الصحة والعافية، والمرض ضرر، والذين لايجدون مالاً ينفقون منه، ولا الذين يجيئون لرسول الله فلا يكون بحوزة الرسول دواب تحملهم، فينصرفون وأعينهم تفيض من الدمع حزناً لأنهم لا يجدون ما ينفقون. وكان المؤمن من هؤلاء يحزن لأن الرسول لم يجد له فرساً أو دابة تنقله إلى موقع القتال:

( وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ (92) )

(سورة التوبة)

 

لقد تولوا وأعينهم تفيض من الدمع. وكلمة "تولوا" هنا لها معنى كبير، فلم يقل الحق: إن أعينهم تفيض من الدمع من غير التولى، هم لا يدمعون أمام النبى، ولكنهم يدمعون فى حالة توليهم، وهذا انفعال نفسى من فرط التأثر؛ لأنهم لا يشتركون فى القتال. وكلمة "تفيض" تدل على أن الدمع قد غلب على العين كلها، فهم لا يصطنعون ذلك، لكن الانفعال يغمرهم؛ لأن الذى يتصنع ذلك يقوم بتعصير عينيه ويبذل جداً للمُراءاة، ولكن انفعال المؤمنين الذين لا يقاتلون يغلبهم فتفيض أعينهم من الدمع.

 

وهناك آية أخرى حدد فيها الحق الحالات التى لا يطالب فيها المؤمن بالقتال:

 

( لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَابًا أَلِيمًا )

(من الآية 17 سورة الفتح)

 

هؤلاء- إذن – هم أولو الضرر.

 

"لا يستوى القاعدون من المؤمنين غير أولى الضرر والمجاهون فى سبيل الله بأموالهم وأنفسهم" وماداموا لا يستوون فمن الذى فيهم يكون هو الأفضل؟ .

 

ذلك ما توضحه بقية الآية التى تحمل المقولة الإيمانية الواضحة:"فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة وكلا وعد الله الحسنى". وسبحانه وعد الاثنين بالحسنى الإيمانية؛ لأن كُلاً منهما مؤمن، ولكن للمجاهد درجة على القاعد. وإن تسائل أحد: ولماذا وعد الله القاعد من أولى الضرر بالحسنى؟ وهنا أقول: علينا أن ننتبه وأن نحسن الفهم والتدبر عندما نقرأ القرآن؛ لأن الذى أصابته آفه فناله منها ضرر، فصبر لحكم الله فى نفسه، ألا يأخذ ثواباً على هذه؟ .

 

لقد أخذ الثواب ولا بد – إذن – أن يعطى الحق من لم ياخذ ثوابا مثله فرصة ليأخذ ثواباً آخر حتى يكون الجميع فى الاستطراق الإيمانى سواء. لذلك يقول سبحانه: "وكلا وعد الله الحسنى".

 

والحسنى فى أولى الضرر أنه أخذ جزاء الصبر على المصيبة التى أصابته، والذى لم يصب بضرر سيأخذ ثواب الجهاد، وبذلك يكون الجميع قد نالوا الحسنى من الله.

 

"وكلا وعد الله الحسنى وفضل المجاهدين على القاعدين أجراً عظيماً".

 

وسبحانه يضع أجراً جديداً للقائم مجاهداً على القاعد، ففى صدر الآية جاء بـ"درجة" أعلى للقائم مجاهداً، وهنا "أجر عظيم". ما تفسير هذا الأجر العظيم؟. التفسير يجئ فى قوله:

 

دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (96)