إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا (105)

والحق سبحانه وتعالى حين يتكلم عن نفسه؛ يتكلم فيما يتعلق بالفعل بصفة التعظيم والجمع. مثال ذلك قوله: "إنا أنزلنا". وهذه "نون الجماعة" حيث يتطلب إنزال القرآن قوى متعددة لا تتوافر إلا لمن له الملك فى كل الكون. ولنضرب لذلك مثلا ولله المثل الأعلى.. إننا نجد أن رئيس الدولة أو الملك فى أى بلد يصدر قراراً فيقول :"نحن فلانا أصدرنا القرار". والملك أو الرئيس يعرف أنه ليس وحده الذى يصدر القرار، ولكن يصدره معه كل المتعاونين معه وكل العاملين تحت رئاسته، فما بالنا بالحق الأعلى سبحانه وتعالى؟ لذلك فحين يتكلم سبحانه فيما يتعلق بالذات يكون الحديث بواسطة ضمير الأفراد فيقول:

(إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي (14))

(سورة طه)

 

 

 

ولا يأتى هنا ضمير الجمع أبداً، ولا تأتى "نون التعظيم". ولكن فى هذه الآية نجد الحق يقول: "إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق" .. ونرى "نون التعظيم" واضحة ، فالقرآن كلام الله، ونزول القرآن يتطلب صفات متعاضدة فسبحانه مرة يقول:

(أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ)

(من الآية 47 سورة العنكبوت)

ومرة يقول:

(أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ)

(من الآية 51 سورة العنكبوت)

ومرة ثالثة يقول:

(لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (10))

(سورة الأنبياء)

ما الغاية من الإنزال؟ الغاية من الإنزال أن يوجد على الأرض منهج يحكم حركة الحياة. والقرآن قد أنزل إلى الرسول وإلى من آمن بالرسالة. وحين يقول الحق: "أنزلنا عليك" فمعنى ذلك نزول التكليف. وساعة نسمع كلمة "أنزلنا" فعلينا أن نعرف أن كل شئ يجئ من الحق فهو ينزل إلينا منه سبحانه، وكلمة "أنزل" تشعر السامع أو القارئ لها أن الجهة التى أنزلت هى جهة أعلى، وليست مساوية لمن أُنْزِلَ إليه، وليست أدنى منه أيضاً.

 

وكلمة "أنزلنا" تدل على أن جهة أنزلت، وجهة أُنزل إليها، وشء أنزلته الجهة إلى الُمَنَزلِ إليه. والكتاب هو المنزل. والذى أنزله هو الله. و الُمَنَزلِ إليه هو رسول الله وأمته. وهل أنزل الحق سبحانه الكتاب فقط أو انزل قبل ذلك كل ما يتعلق بمقومات الحياة؟

 

وعندما نقرأ هذا القول الكريم:

(يَا بَنِي آَدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآَتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ)

(من الآية 26 سورة الأعراف)

إنه لباس جاء من أعلى؛ لذلك استخدم الحق كلمة "أنزلنا" وهو ليس لباساً فقط ولكنه أيضاً يزينكم مأخوذ من ريش الطائر لأنه لباسه وزينته، فهو لا يوارى العورة فحسب ولكنه جميل أيضاً، والأجمل منه أنه لباس التقوى.

 

لقد جاء الحق بالمقوم للحياة ستراً ورفاهية، وبعد ذلك أنزل الحق لباس التقوى وهو الخير. فاللباس الأول يوارى عورة مادية، ولباس التقوى يوارى العورات القيمية والمعنوية، وكل ذلك إنزال من أعلى. وفى آية أخرى يقول الحق سبحانه وتعالى:

(لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ)

(من الآية 25 سورة الحديد)

إذن فكلمة "الإنزال" تدل على أن كل ما جاء من قِبَلِ الحق الأعلى إلينا، فهو نازل إلينا بشء يعالج مادتنا وقوامنا، وبشئ يعالج معنوياتنا وقيمنا.

 

ويقول الحق فى الآية التى نحن بصدد تناولها الآن:"إنا أنزلنا إليك الكتاب" وحين يُطلق الكتاب فالمعنى ينصرف إلى الكتاب الجامع المانع المهيمن على سائر الكتب وهو القرآن، وإن كان "الكتاب" يطلق على المكتوب الذى نزل على أى رسول من الله سبحانه وتعالى.

 

"إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق" والحق هو الشئ الثابت الذى لا يأتى واقع آخر لينقضه. وعلى سبيل المثال: أنت فى حياتك العادية حين تقول قضية صدق تحكى بها واقعا حدث مهما تكررت روايتك لهذه التفاصيل مده عشرين سنة فهى لا تتغير؛ لأنها مطابقة للواقع. وأنت حين تقولها تستحضر الواقع الذى حدث أمامك. ولكن إذا حَدَثَ إنسان بقضية كذب لا واقع فيها. فماذا يكون موقفه؟ سيحكى القضية مرة بأسلوب، وإن مر عليه أسبوع فهو ينسى بعضاً مما قاله فى أول مرة فيحكى وقائع أخرى، ذلك أن ما يرويه ليس له واقع؛ لذلك يقول كلاماً مغايراً لما قاله فى المرة الأولى، وهنا يعرف السامع أن هذه المسالة كاذبة.

 

إذن فالحق هو الشئ الثابت الذى لا ينقضه واقع أبداً. وأنزل الله الكتاب بالحق أى أنزله بالقضايا الثابتة التى لا يأتيها الباطل من يديها، فهو ثابت لا ينقضه واقع.

 

ويقال فى حياتنا للتلميذ الناجح من اساتذته: لقد أعطيناك المرتبة الأولى على زملائك بالحق. أى أن هذا التلميذ قد أخذ حقه لأنه يستحق هذه المكانة. وقوله الحق سبحانه : "إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق" أى إن إنزال الكتاب على سيدنا رسول الله ليبلغه جاء ملتبسا ومرتبطا بالحق ولا ينفك عنه وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل لأن ينزل عليه الكتاب. ووجود معنى بجانب معنى فى القرآن هو من أسرار إشعاعات الكلمات القرآنية، فهى لا تتناقض ولكنها توضع بحكمة الخالق لتجلو لنا المعانى.

 

"إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس" وهذا يوضح لنا أن حكومة الدين الإسلامى وعلى رأسها الحاكم الأول رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما جاء لا ليحكم بين المؤمنين به فقط، بل ليحكم بين الناس. ومن شرط الحكم بين الناس القيام بالعدل فيما يختصمون فيه، فلا يقولن واحد: هذا مسلم، وذاك كافر، فإذا كان الحق مع الكافر فلا بد أن تعطيه له، وغذا كان الحق مع المسلم فيجب أن تعطيه له؛ لأنك لا تحكم بين المؤمنين فقط ولكنك تحكم بين الناس.

 

وأنت إن حكمت بين الناس حكماً يتفق مع منطق الواقع والحق. تجعل الذى حُكم له يشهد أن دينك حق، فعندما يكون الحق مع الكافر، وتحكم على المؤمن بالحكم الحق الذى لا حيف فيه حتى وإن كان عقابا، فالكافر يقرع نفسه على أنه لم يكن من أهل هذا الدين الذى يعترف بالحق ويحكم به ولو كان على مسلم. وأيضاً يعرف المسلم ساعة يُحكم عليه لصالح واحد غير مسلم أن المسالة ليست نسبة شكلية إلى الإسلام، ولكنها نسبة موضوعية، فلا يظنن أحد أن الإسلام قد جاء ليحابى مسلما على أى إنسان آخر، ولكن الإسلام قد جاء ليأخذ الجميع بمنطق الحق، ويطبق على الجميع منهج الحق، وليكون المسلم دائما فى جانب الحق.

 

وسبحانه وتعالى يعطى هذه القضية لواقعة حدثت معاصرة لرسول الله. والوقائع التى حدثت معاصرة لرسول الله كانت بمثابة إستدرار السماء للأحكام، فالقضية تحدث وينزل فيها الحكم، ولو جاءت الأحكام مبوبة وسقطت ونزلت مرة واحدة، فقد تحدث الحادثة ويكون لدى المؤمنين الحكم ويحاولون البحث عنه فى الكتاب. لكن إذا ا جاء الحكم ساعة وقوع الحادثة فهو ينصب عليها، ويكون الأمر أدعى للإذعان له؛ لأنه ثبت وأيَد ووثق بواقعة تطبيقية.

 

والحكم الذى نزل هو:"إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيماً". وعندما يقول سبحانه "أراك" أو "علَمك" فلتعلم أن تعليم الله هم أكثر تصديقاً من رؤيتك الإنسانية، وكأنك تتمثل الشئ الذى يعلمه لك الله وكأنه مجسد أمامك، وليس مع العين أين.

 

والواقعة التى حدثت هى: كان فى "بنى ظفر" واحد اسمه "طعمة بن أبيرق" وسرق "طعمة" درعا ، وهذا الدرع كان "لقتادة بن النعمان". وخاف "طعمة" أن يحتفظ بالدرع فى بيته فيعرف الناس أنه سرق الدرع. وكان "طعمة" فيما يبدو مشهوراً بأنه لص، فذهب إلى يهودى وأودع عنده الدرع، وكان الدرع فى جراب دقيق. وحينما خرج به "طعمة" وحمله صار الدقيق ينتثر من خرق فى الجراب وتَكوَنَ من الدقيق أثراً فى الأرض إلى بيت اليهودى وكان اسمه "زيد بن السمين"، وعندما تتبعوا أثر الدقيق وجدوه إلى بيت طعمة، ولكنه حلف ما أخذها وماله بها علم فتركوه وأتبعوا أثر الدقيق حتى انتهى إلى منزل اليهودى فأخذوها وقالوا: "لقد سرق ابن السمين". وهنا قال ابن السمين:"أنا لم أسرق الدرع ولكن أودعه عندى "طعمة بن ابيرق"". وذهبوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وجاء "بنو ظفر" وهو مسلمون "وطعمة بن أبيرق" منهم وقالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: لو حكمت على المسلم ضد اليهودى فستكون المسألة ضد المسلمسن وسيوجد العار بين المسلمين.

ونعلم أن الحق سبحانه وتعالى أرسل رسوله لِيُعَدَل منهج الغرائز البشرية والغريزة البشرية بحسب اندفاعها وقصر نظرتها قد تتصور أن الحكم على المسلم وتبرثة اليهودى هو إضعاف للمسلمين. ويريد الحق سبحانه وتعالى أن يقيم الأمر بالقسط فينزل على رسوله:

(إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا (105))

(سورة النساء)

أى إياك أن تقول: إن هذا مسلم ولا يصح أن نلصق به الجريمة التى ارتكبها حتى لا تكون سُبة عليه، وإياك أن تخشى ارتفاع رأس اليهودى؛ لأن هناك لصاً قد ظهر من بين المسلمين. ومن الشرف للإسلام أن يعاقب أى إنسان ارتكب خطأ لأنه مادام قد انتسب للإسلام فعليه أن يصون هذا الانتساب. وعقاب المسلم على خطأ هو شهادة للإسلام على أنه لم يأت ليجامل مسلماً. وعلى كل مسلم أن يعرف أنه دخل الإسلام بحق الإسلام.

 

لقد نظر بعض السطحيين إلى قوله الحق: "ولا تكن للخائنين خصيماً" قائلين: إن كان هناك لص أو خائن أو مستغل لقوته فاتركه ولا تنظر إليه ولا تلتفت حتى لا يسبب لك تعباً. ولهؤلاء نقول: لا، فسبحانه وتعالى يقول: "ولا تكن للخائنين خصيماً" و"اللام" التى فى أول "الخائنين" هى للملكية أى أن الحق يامر النبى صلى الله عليه وسلم ألا يقف موقفا لصالح الخائن، بل عليه أن يخاصم لمصلحة الحق.

 

وقد حاول العلماء أن يقربوا المسافة فقالوا: ربما لا ينتبه أحد لمسألة الام وأنها هنا للنفعية، فيكون المنهى عنه أن يقف مسلم موقفا ينفع خائنا، بل لابد أن يكون على الخائن وليس معه. فاالام هنا تكون بمعنى "عن". كأن الحق يقول: ولا تكن عن الخائنين خصيما. أى لا تكن يا محمد مدافعاً عن الخائنين.

 

ولماذا لم يقل الحق "عن" بدلاً من "اللام"؟ نقول: إن الغاية من الدفاع عن الخصم أن ترجح أمره وتكون له لا عليه، لذلك جاء الحق بـ"اللام" هنا من أجل أن نعرف الغاية من "عن" واضحة. فاللام تفيد الا ينفع المسلم خائناً، فلا تكن المسالة له، ولذلك جاء الحق بها إيضاحاً واختصاراً لنعرف أن رسوله لن يقف فى جانب الخائن ولن يأتى له بما ينفعه. ولذلك قال العلماء: إن اللام هنا بمعنى "عن" والقرآن فيه الكثير من مثل هذا.

 

وبعض الناس يقول: لماذا يأتى باللفظ الواضح الذى يجعلنا نعرف المعنى مباشرة؟ ونقول: إن الملحظية هنا مفيدة لنعرف فى أى صف يقف القرآن والرسول المبلغ عن ربه، مثال ذلك قوله الحق:

(وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آَبَاؤُكُمْ وَقَالُوا مَا هَذَا إِلَّا إِفْكٌ مُفْتَرًى وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (43))

(سورة سبأ)

القائل هم الذين كفروا، والقول له هو الحق. وبعض الناس كان يفترض أن المنطق يقتضى أن يقول الكفار: إنك سحر مبين. وكأن الآية هى: وإذا تتلى آياتنا بينات قال الذين كفروا للحق لما جاءهم أنت سحر مبين. ولنلحظ أنهم لم يقولوا للحق، ولكنهم قالوا عن الحق. ولم يقولوا للحق ذلك، بل قال بعضهم لبعض.

و"الحق" هنا مُحَدَثٌ عنه وليس مخاطباً. فقالوا عنه: إنه سحر مبين.

 

وهناك آية أخرى يقول الحق فيها:

(وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آَمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ)

(من الآية 11 سورة الأحقاف)

 

والقائل هنا هم الذين كفروا. والمقول لهم هم الذين آمنوا. والمقصود هو: أن الذين كفروا قالوا للذين آمنوا لو كان الإسلام خيراً ما سبقتمونا إليه.

 

ولكن الحق سبحانه أوردها: "لو كان خيراً ما سبقونا إليه" وذلك ليدلنا على أنهم قالوا ذلك فى غير محضر المؤمنين، بل هم يتبادلون هذا القول فيما بينهم. وإلا لو أن القول من الكافرين للمؤمنين لكان السياق يقتضى أن يكون: لو كان خيراً ما سبقتمونا إليه.

 

ومن بعد ذلك يقول الحق:

 

وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا(106)