وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (112)

 

قالوا: إن الخطيئة هى الشئ غير المتعمَد، مثال ذلك حين نعلَم التلميذ قاعدة من قواعد النحو، ثم نطلب منه أن يطالع نصاً من النصوص، ونلتفت لنجد التلميذ قد نصب الفاعل ورفع المفعول، ونصحح له الخطأ، إنه لم يتعمده، بل نسى القاعدة ولم يستحضرها. ونظل نصحح له الخطأ إلى أن يتذكر القاعدة النحوية، وبالتدريب يصبح الإعراب ملكة عند التلميذ فلا يخطئ.

 

والخطيئة – إذن – هى الخطأ غير المتعمد. أما الإثم فهو الأمر المتعمَد. فكيف إذا رمى واحد غيره بإثم ارتكبه أو خطيئة ارتكبها هو.. ما حكم الله فى ذلك؟

(وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (112))

(سورة النساء)

 

لقد ارتكب الخطيئة او الإثم، وياليته اكتفى بهذا، لا ، بل يريد أن يصعد الجريمة بارتكاب جريمة ثانية وذلك بأن يرمى بالخطيئة أو الإثم بريئاً، إنَ إثمه مركب، ولذلك قال الحق: "فقد احتمل بهتاناً وإثماً مبيناً" واستخدام الحق هنا لكلمة "احتمل" وليس "حمل" تؤكد لنا أن هناك علاجاً ومكابدة وشدة ليحمل الإنسان هذا الشئ الثقيل؛ فالجريمة جريمتان وليست واحدة، لقد فعل الخطيئة ورمى بها بريئاً، وفاعل الخطيئة يندم على فعلها مرة، ويندم أيضاً على إلصاقها ببرئ، إذن فهى حمل على أكتافه. ونعلم أن الإنسان ساعة يقع أسير سُعار العداوة؛ يهون عليه أن يصنع المعصية، ولكن بعد أن يهدأ سعار العداوة فالندم يأتيه. قال الحق:

(وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آَدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآَخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (27))

(سورة المائدة) 

هابيل – إذن – يسأل قابيل : وما ذنبى أنا فى ذلك، إن الله هو الذى يتقبل القربان وليس أنا فلماذا تقتلنى؟

ويستمر القول الحكيم:

(لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (28))

(سورة المائدة)

 

وماذا يقول الحق من بعد ذلك:

(فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ (30))

(سورة المائدة)

 

كأن مسألى القتل كانت عملية شاقة وليست سهلة، وأخذت مغالبة. وعلى سبيل المثال: لن يقول أحد: "لقد طوعت الحبل" ولكن هناك من بقول : "أنا طوعت الحديد". وسعار الغضب جعل قابيل ينسى كل شئ وقت الجريمة ، وبعد أن وقعت، وهدأ سعار الغضب الذى ستر موازين القيم، هنا ظهرت موازين القيم ناصعة فى النفس.

 

ولذلك نجد من يرتكب جريمة ما، ويتجه بعد ذلك لتسليم نفسه إلى الشرطة، وهو يفعل ذلك لأن سعار الجريمة انتهى وظهر ضوء موازين القيم ساطعاً. وعلى ذلك نفهم قول الحق: "فقد احتمل بهتاناً وإثماً مبيناً".

 

وهذا يدل على أن من يصنع جريمة ثم يرمى البرئ بالإثم إنما يرتكب عملاً يتطلب مشقة وتتنازعه نفسه مرة بالندم؛ لأنه فعل الجريمة، وتنازعه نفسه مرة ثانية لأنه رمى بريئاً بالجريمة؛ لذلك قال الحق: "فعفقد احتمل بهتاناً وإثماً مبيناً" وساعة نسمع كلمة "بهتان" فهى مأخوذة من مادة "بهت". والبهتان هو الأمر الذى يتعجب من صدوره من فاعله. مثال ذلك قوله الحق فى شرح قضية سيدنا إبراهيم مع النمرود، حيث يقول سبحانه على لسان سيدنا إبراهيم:

(فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ)

 

(من الآية 258 سورة البقرة)

 

فماذا كان موقف الرجل؟

(فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ)

(من الآية 258 سورة البقرة)

 

أى أنه سمع شيئاً عجيباً يخرسه عن أن يتكلم؛ فقد جاء له سيدنا إبراهيم بأمر عجيب لا يخطر على باله، ولا يستطيع أن يجد منه مفراً، فكأن الأمور المخالفة لمنطق الحق ولمطلوب القيم أمور غريبة عن الناس إنَها هى البهتان، والدليل على ذلك أنها أمور يستتر فاعلها عن الناس.

 

وإذا ما نظرنا إلى القضية التى نزلت الآية بسببها. وجدنا أن سارقاً سرق وأراد أن يبرئ نفسه وأن يُدخل فى الجريمة بريئاً. ويلصقها به، وأن يرتكب المجرم الجريمة

فهذا يحمله إثماً. أما أن ينقل الجريمة إلى سواه فهذا يدل على وجود طاقة أخرى حتى يحتمل ما فعله، وهذا صعب على النفس، ولا يتعجب أحد لسماع شئ إلا إذا كان هذا الشئ مخالفاً لما هو مالوف ومعروف. وإنَ فى الحوار بين سيدنا إبراهيم والنمرود لدليلاً واضحاً وناصعاً؛ فعندما قال النمرود:

(أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ)   

(من الآية 258 سورة البقرة)

 

قصد بذلك قدرته على أن يقتل إنساناً، ويترك إنساناً آخر لمسعاه. وهنا عاجله سيدنا إيراهيم بالقضية التى تبهته ولا يدخل فيها هذا التماحك اللفظى. فقال:

(فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ)

(من الآية 258 سورة البقرة)

أى أن النمرود سمع قولاً عجيباً وليس عنده من الذكاء ما يحتاط به إلى دفعه، وكذلك الرجل الذى صنع الجريمة ثم رمى بها غيره احتاج إلى طاقة تتحمل هذا، مما يدل على أن الفطرة السليمة كارهة لفعل القبيح. فغذا ما فعل الإنسان ذنباً فقد حمل بهتاناً، وإذا ما عَدَى ذلك إلى أن يحمله إلى برئ، فذلك يعنى أن الأمر يحتاج إلى طاقة أخرى.

 

إذن فقوله الحق: "فقد احتمل بهتاناً وإثماً مبيناً" أى أنه احتمل أمراً عجيباً يبهت السامع ويتعجب كيف حدث ذلك. ويحتمل من يفعل ذلك الإثم أيضاً.

 

. والإثم – كما – عرفنا – هو السيئة المتعمَدة. ويوضح الحق سبحانه وتعالى هذه القضية: إن الله سبحانه وتعالى يحوطك يا محمد بعنايته وبرعايته وبفضله، وإن حاول بعض من قليلى الإيمان أن يخرجوك عن هذه المسألة، وأن يزينوا لك أن تبرئ مذنباً لتجرم آخر بريئاً وإن كان المذنب مسلماً وإن كان البرئ غير مسلم، والله لم يرسل محمداً ليحكم بالحق: " لتحكم بين الناس " أى ليحكم بين الناس على إطلاقهم. فإياك حين تحكم أن تقول: هذا مسلم وذلك كافر. أو تقول : هذا مسلم وذلك من أهل الكتاب، بل كل الناس أمام قضايا الحق سواء.

 

ولذلك أخذ الرسول صلى الله عليه وسلم تلك الجرعة الإيمانية التى جاءت بها حادثة من الحوادث ليقول بعد ذلك فى قصة المخزومية حينما سرقت وأراد ان يقيم عليها الحد، وكلَمه حبيبه أسامة بن زيد فى أن يرفع عنها الحد، فقال رسول الله:

 

عن عائشة رضى الله عنها أن قريشا أهمهم شأن المرأة المخزومية التى سرقت فقالوا: مَنْ يكلم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقالوا: ومن يجرؤ عليه إلا أسامة حب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكلمه اسامة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أتشفع فى حد من حدود الله؟! ثم قام فاختطب فقال:"أيها الناس: إنما أهلك الذين من قبلكم انهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإن سرق فيهم الضعيف اقاموا عليه الحد، وايم الله لو ان فاطمة بنت محمد سرقت لقطع محمد يدها"(1)

هذا القول مستخلص من القضية السابقة. ويقول سبحانه وتعالى:

 

وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا (113)