و بعد هذه الحادثة كان لابد أن يقول تعالى :

{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ

الشَّيْطَانِ وَمَن يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ أَبَداً وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ

عَلِيمٌ(21) }

( زكا : طهر و صلح فهو زكى و هى زكية . [ القاموس القويم 1 / 287 ] قال القرطبى فى تفسيره ( 6/4742) : " أى : ما اهتدى و لا أسلم و لا عرف رشداً " على قراءة (زَكَى) أما على قراءة (زكّى) " أى أن تزكيته لكم و تطهيره و هدايته إنما هى بفضله لا بأعمالكم " ) .

 

كأن الشيطان له خطوات متعددة ليست خطوة واحدة ، و قد أثبت الله عداوته لبنى آدم ، و هى عداوة مسببة ليست كلاماً نظرياً ، إنما هو عدو بواقعة ثابتة ، حيث امتنع عن السجود لآدم ، و عصى أمر الله له ، بل و أبدى ما فى نفسه و قال : { أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ(12) } [الأعراف]

و قال : { أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً(61) } [الإسراء] و هكذا علل امتناعه بأنه خير ، و كأن عداوته لآدم عداوة حسد لمركزه و مكانته عند ربه .

و الحق – تبارك وتعالى – حينما يخبرنا بعداوة الشيطان من خلال امتناعه عن السجود ، إنما يحذرنا منه ، و ينبهنا إلى خطره و يربى فينا المناعة من الشيطان ؛ لأن عداوته لنا عداوة مركزة ، ليست عداوة يمارسها هكذا كيفما اتفق ، إنما هى عداوة لها منهج و لها خطة .

فأول هذه الخطة أنه عرف كيف يقسم ، فدخل على الإنسان من باب عزة الله عن خلقه ، فقال : { قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ(82) } [ص]

فلو ارادنا ربنا – عز و جل – مؤمنين ما كان للشيطان علينا سبيل ، إنما تركنا سبحانه للاختيار ، فدخل علينا الشيطان من هذا الباب ؛ لذلك قال بعدها : { إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ(40) } [الحجر] فمن اتصف بهذه الصفة فليس للشيطان إليه سبيل .

إذن : مسألة العداوة هذه ليست بين الحق سبحانه و بين الشيطان ، إنما بين الشيطان و بني آدم .

فقوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ...(21)} [النور] نداء : يا من آمنتم بإله كأنه يقول : تنبهوا إلى شرف إيمانكم به ، و ابتعدوا عما يضعف هذا الإيمان ، أو يفت فى عضد المؤمنين بأى وسيلة ، و تأكدوا أن الشيطان له خطوات متعددة .

{ لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ ...(21) } [النور] فإن وسوس لك من جهة ، فتأبيت عليه ووجد عندك صلابة فى هذه الناحية وجهك إلى ناحية أخرى ، و زين لك من باب آخر , و هكذا يظل بك عدوك إلى أن يوقعك ، فهو يعلم أن لكل إنسان نقطة ضعف فى تكوينه ، فيظل يحاوره إلى أن يصل إلى هذه النقطة .

و الشيطان : هو المتمرد العاصى من الجن ، فالجن مقابل الإنس ، فمنهم الطائع و العاصى منهم هو الشيطان ، و على قمتهم إبليس ؛ لذلك يقول تعالى فى سورة الكهف : { إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ ...(50) } [الكهف]

و سبق أن ذكرنا أنك تستطيع أن تفرق بين المعصية من قبل النفس و المعصية من قبل الشيطان ، فالنفس تلح عليك فى معصية بعينها لا تتعداها إلى غيرها ، اما الشيطان فإنه يريدك عاصيا على أى وجه من الوجوه ، فإن امتنعت عليه فى معصية جرك إلى معصية أخرى أياً كانت .

ثم يقول سبحانه :{ وَمَن يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ ...(21) } [النور] و لك أن تسأل : أين جواب ( من ) الشرطية هنا ؟ قالوا : حذف الجواب لأنه يفهم من السياق ، و دل عليه بذكر علته و المسبب له ، و تستطيع أن تقدر الجواب : من يتبع خطوات الشيطان يذقه ربه عذاب السعير ؛ لأن الشيطان لا يأمر إلا بالفحشاء و المنكر ، فمن يتبع خطواته ، فليس له إلا العذاب ، فقام المسبب مقام جواب الشرط .

و الكلام ليس كلام بشر ، إنما هو كلام رب العالمين . و أسلوب القرآن أسلوب راق يحتاج إلى فكر وَاعِ يلتقط المعانى ، و ليس مجرد كلام و حشو .

ألا ترى بلاغة الإيجاز فى قوله تعالى من سورة النمل : { اذْهَب بِّكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ(28) } [النمل]

ثم يقول تعالى بعدها : { قَالَتْ يَا أَيُّهَا المَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ(29) } [النمل]

و تأمل ما بين هذين الحدثين من أحداث حُذفت للعلم بها ، فوعى القارئ و نباهته لا تحتاج أن نقول له فذهب الهدهد .. وو إلخ فهذه أحداث يرتبها العقل تلقائياً .

و قد أوضح الشيطان نفسه هذه الخطوات و أعلنها ، و بين طرقه فى الإغواء ، ألم يقل : { لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ(16) } [الأعراف] فلا حاجة للشيطان بأصحاب الصراط المعوج لأنهم أتباعه ، فالشيطان لا يذهب إلى الخمارة مثلاً ، إنما يذهب إلى المسجد ليُفسد على المصلين صلاتهم ، لذلك البعض ينزعج من الوساوس التى تنتابه فى صلاته ، و هى فى الحقيقة ظاهرة صحية فى الإيمان ، و لولا أنك فى طاعة و عبادة ما وسوس لك .

لكن مصيبتنا أن الشيطان يعطينا فقط طرف الخيط ، فنسير نحن خلفه ( نكر فى الخيط كراً ) و لو أننا ساعة ما وسوس لنا الشيطان استعذنا بالله من الشيطان الرجيم ، كما أمرنا ربنا تبارك و تعالى :

{ وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ(200) } [الأعراف]

إذن : إياك أن تقبل منه طرف الخيط ؛ لأنك لو قبلته فلن تقدر عليه بعد ذلك .

و من خطوات الشيطان أيضاً قوله : { ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ(17) } [الأعراف]

إذن : للشيطان فى إغواء الإنسان منهج و خطة مرسومة ، فهو يأتى الإنسان من جهاته الأربع : من أمامه ، و من خلفه ، و عن يمينه ، و عن شماله . لكن لم يذكر شيئاً عن أعلى و أسفل ؛ لأن الأولى تشير إلى عُلُوﱢ الربوبية ، و الأخرى إلى ذل العبودية ، حين ترفع يديك إلى أعلى بالدعاء ، و حين تضع جبهتك على الأرض فى سجودك ؛ لذلك لا يأتيك عدوك من هاتين الناحيتين .

ثم يقول تعالى : { وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ أَبَداً وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَن يَشَاءُ ...(21) } [ النور ]

قلنا : إن فضل الجزاء يتناوبه أمران : جزاء بالعدل حين تأخذ ما تستحقه ، و جزاء بالفضل حينما يعطيك ربك فوق ما تستحق ؛ و بالإحسان لا بالميزان ، و بالجبر لا بالحساب . فإن عاملنا ربنا – عز وجل – بالعدل لَضِعْنا جميعاً .

لكن ، فى أى شئ ظهر هذا الفضل ؟ ظهر فضل الله على هذه الأمة فى أنه تعالى لم يعذبها الاستئصال ، كما أخذ الأمم السابقة و ظهر فضل الله على هذه الأمة فى أنه تعالى أعطاها المناعة قبل أن تتعرض للحدث ، و حذرنا قديماً من الشيطان قبل أن نقع فى المعصية ، و قبل أن تفاجئنا الأحداث ، فقال سبحانه : { فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ ...(117) } [طه] و إلا لغرق الإنسان فى دوامة المعاصى .

لأن التنبيه للخطر قبل وقوعه يربى المناعة فى النفس ، فلم يتركنا ربنا – عز وجل – فى غفلة إلى أن نقع فى المعصية ، كما نحصن نحن أنفسنا ضد الأمراض لنأخذ المناعة اللازمة لمقاومتها .

و قوله تعالى : { مَا زَكَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ أَبَداً ...(21) } [النور]

( زكى ) تطهر و تنقى و صفى { وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ(21) } [النور] و قال : { سَمِيعٌ عَلِيمٌ(21) } [النور] لأنه تعالى سبق أن قال : { إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا ...(19) } [النور] ذلك فى ختام حادثة الإفك التى هزت المجتمع الإسلامى فى قمته ، فمست رسول الله صلى الله عليه و سلم و صاحبه الصديق و زوجته أم المؤمنين عائشة و جماعة من الصحابة .

لذلك قال تعالى ( وَاللَّهُ سَمِيعٌ ) لما قيل ( عَلِيمٌ ) [ النور : 21 ] بما تكنه القلوب من حب لإشاعة الفاحشة .