ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ (48)

وهكذا أوضح يوسف عليه السلام ما سوف يحدث في مصر من جدب يستمر سبع سنوات عجاف بعد سبع سنوات من الزرع الذي يتطلب همة لا تفتر. وقوله سبحانه في وصف السبع "سنوات" بأنها:
..شِدَادٌ... (48)
(سورة يوسف)


يعني: أن الجدب فيها سوف يجهد الناس؛ فإن لم تكن هناك حصيلة ثم تخزينها من محصول السبع السنوات السابقة، فقد تحدث المجاعة، وليعصم الناس بطونهم في السنوات السبع الأولى، وليأكلوا على قدر الضرورة؛ ليضمنوا مواجهة سنوات الجدب.
ونحن نعلم أن الإنسان يستبقي حياته بالتنفس والطعام والشراب؛ والطعام إنما يمري على الإنسان، ويعطيه قوة يواجه بها الحياة. ولكن أغلب طعامنا لا نهدف منه القوة فقط؛ بل نبغي منه المتعة أيضاً، ولو كان الإنسان يبغي سد غائلة الجوع فقط، لاكتفى بالطعام المسلوق، أو بالخبز والإدام فقط، لكننا نأكل للاستمتاع. ويتكلم الحق سبحانه عن ذلك فيقول:

....
فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا (4)
(سورة النساء)


أي: بدون أن يضرك، ودون أن يلجئك هذا الطعام إلى المهضمات من العقاقير. وهذا هو المقصود من قول الحق سبحانه:

....هَنِيئًا ... (4)
(سورة النساء)


أما المقصود بقوله:

... مَرِيئًا (4)
(سورة النساء)


فهو الطعام الذي يفيد ويمد الجسم بالطاقة فقط؛ وقد لا يستساغ طعمه. وهنا قال الحق سبحانه:

ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ (48)
(سورة يوسف)


وبطبيعة الحال نفهم أن السنوات ليست هي التي تأكل؛ بل البشر الذين يعيشون في تلك السنوات هم الذين يأكلون. ونحن نفهم ذلك؛ لأننا نعلم أن أي حدث يحتاج لزمان ولمكان؛ ومرة ينسب الحدث للزمان؛ ومرة ينسب الحدث للمكان. والمثال على نسبة الحدث للمكان هو قول الحق سبحانه:

وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ .... (82)
(سورة يوسف)


وطبعاً نفهم أن المقصود هو سؤال أهل القرية التي كانوا فيها، وأصحاب القوافل التي كانت معهم. وهنا في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها؛ نجد الحدث منسوباً للزمان؛ وهم سيأكلون مما أحصنوا إلا قليلاً؛ لأنهم بعد أن يأكلوا لابد لهم من الاحتفاظ بكمية من الحبوب والبذور لاستخدامها كتقاوي في العام التالي لسبع سنوات موصوفة بالجدب.
وقوله تعالى:

...
مِمَّا تُحْصِنُونَ (48)
(سورة يوسف)


نجده من مادة "حصن" وتفيد الامتناع؛ ويقال: "أقاموا في داخل الحصن" أي: أنهم إن هاجمهم الأعداء؛ يمتنعون عليهم؛ ولا يستطيعون الوصول إليهم. ويقول الحق سبحانه:

وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ ....(24)
(سورة النساء)


أي: الممتنعات عن عملية الفجور؛ وهن الحرائر. وأيضاً يقول الحق سبحانه:

وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا .. ....(91)
(سورة الأنبياء)


أي: التي أحكمت صيانة عفتها، وهي السيدة مريم البتول عليها السلام، وهكذا نجد مادة "حصن" تفيد الامتناع. ويقول الحق سبحانه بعد ذلك

ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ (49)